على الرغم من مرور ما يزيد على أسبوعين على الانتخابات النيابية المبكّرة التي جرت يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، لا تزال الكتل السياسية العراقية الخاسرة ترفض الاعتراف بالنتائج الأولية التي أعلنتها المفوضية المستقلة العليا للانتخابات التي تتمهل بدورها في إعلان النتائج النهائية إلى ما بعد النظر في الطعون المقدّمة في عدد من الدوائر الانتخابية. ويُضفي ذلك أجواءً من التوتر حول إمكانية حصول أزمة جديدة، إذا استمرّ النزاع حول نتائج الانتخابات التي يُنظر إليها أنها كانت نزيهة عمومًا، على الرغم من نسب المشاركة المتدنية. لكنّ ذلك كله، على أهميته، لم يمنع من انطلاق النقاش حول شكل الحكومة العراقية القادمة.
تدنّي نسب المشاركة
شهدت نسب المشاركة في الانتخابية النيابية في العراق هبوطًا مستمرًّا منذ أول انتخاباتٍ جرت بعد الغزو الأميركي عام 2003. ولم تكن للتعبئة الكبيرة التي رافقت الانتخابات أخيرا (بلغت ذروتها في دعوة المرجع الشيعي علي السيستاني الناخبات والناخبين إلى المشاركة) نتائج ملموسة، فقد سجّلت نسبة المشاركة الرسمية 41%، مقارنةً بـ 44% في انتخابات 2018، علمًا أن منظمات الرقابة المحلية قدّرت نسبة المشاركة بـ 38%، كما لاحظت رئيسة بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات، فيولا فون كرامون، إقبالًا ضعيفًا على مراكز الاقتراع. وعلى الرغم من أن الحالة العراقية تشبه الحالة العامة في البلدان التي تشهد عمليات انتقال ديمقراطي؛ ذلك أنّ أول دورة انتخابية تشهد حماسةً عاليةً من الجمهور لا تلبث أن تتراجع، فإن لتدنّي نسب المشاركة في الانتخابات النيابية الأخيرة دلالات سياسية مهمة، لا تتوقف عند فقدان أقوى مؤسّسة دينية مجتمعية في العراق (المؤسسة الدينية الشيعية) قدرتها على التعبئة، بل إنها تدلّ كذلك على نجاح دعوات المقاطعة التي أطلقتها القوى والتنظيمات التي انبثقت من الحركة الاحتجاجية، بدايةً من تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وهي القوى التي كانت قد دعت أطرافٌ كثيرة منها، في الأساس، إلى انتخاباتٍ نيابيةٍ مبكّرة، تُفضي إلى تغييرٍ في الطبقة السياسية الحاكمة، على أن يُعدَّل قانونا الانتخابات والأحزاب، مع ضمان استقلالية مفوضية الانتخابات. وقد تبنّت هذه المطالبَ حكومةُ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي (2020)، التي خلفت حكومة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي (2018-2019)، وجعلته الفقرة الأولى في برنامجها الوزاري. واستهوى الأمر القوى الشيعية الحاكمة التي رأت في الانتخابات وسيلة لاحتواء موجة الاحتجاجات التي انفجرت في عام 2019، غير أن قوى تشرين، التي تبنّت مطلب الانتخابات المبكرة، دعت إلى المقاطعة؛ بسبب استمرار استهداف الناشطين البارزين في الحركة الاحتجاجية واغتيالهم من الجماعات والمليشيات المسلحة، في ظل عجز الدولة عن وضع حد لانتهاكاتها. وعلى الرغم من دعوات المقاطعة، فإن الانطباع العامّ أن انتخابات 2021 تُعد الأكثر نزاهةً من بين سائر الانتخابات التي جرت منذ عام 2003. وكان لإعلان النتائج في وقت مبكر، كما نصّ عليه قانون الانتخابات الجديد، وذلك بأن تُعلَن النتائج خلال 24 ساعة، دورٌ كبير في الحدّ من عمليات التلاعب بالأصوات.
يتمحور الانقسام الحادّ بين التنظيمات السياسية الشيعية حول طريقة إدارة الحكم والدولة، وطبيعة علاقتها بإيران
نتائج متناقضة
حملت نتائج الانتخابات مؤشّرات متناقضة، من ذلك، مثلًا، أنّ تراجع الفصائل الشيعية القريبة من إيران (ممثلة بقائمة الفتح التي حصلت على 17 مقعدًا)، قابله صعودٌ ملحوظٌ لقائمة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي (ائتلاف دولة القانون) بحصولها على 35 مقعدًا، وهو تيار قريب من إيران أيضًا. وفي حين شكّل حصول المرشّحين المحسوبين على الحركة الاحتجاجية (قائمة امتداد)، على تسعة مقاعد، وفوز عدد مهمّ من المرشحين المستقلين المحسوبين عليها أيضًا، إحدى النتائج البارزة في هذه الانتخابات، فإنّ ذلك قابله فوز الكتلة الصدرية بالمركز الأول، بـ 72 مقعدًا، علمًا أنّ التيار الصدري أصبح يُعدّ خصمًا لقوى الحركة الاحتجاجية.
ومن المؤشّرات المتناقضة كذلك أنه، مع تراجع القوى المؤيدة إيران، تراجعت القوى الشيعة التي تصنّف معتدلة، وغير محسوبة على التيار الإيراني، تراجعًا كبيرًا هي أيضًا؛ إذ لم يحصل ائتلاف قوى الدولة، وهو يجمع تيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم، وائتلاف النصر بزعامة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، على أكثر من أربعة مقاعد؛ ما قد يفضي إلى تفسير السلوك التصويتي للناخب العراقي بأنه مضادّ لسائر المنظومة الحزبية، على نحوِ ما حصل في فرنسا، وفي تونس عربيًا.
ومع ذلك، هناك مؤشّرات عديدة يمكن استخلاصها، والتي تعطي انتخابات 2021 فرادتها؛ إذ على الرغم من أنّ هذه الانتخابات أعادت إنتاج الطبقة السياسية القائمة، مع اختلافٍ وتفاوتٍ في النتائج التي حققتها، فإنها فتحت الباب أمام إمكانية صعود خياراتٍ سياسيةٍ بديلة، في حال توفر شروط إجراء انتخابات نزيهة. ومن جهة أخرى، تعكس المؤشرات المتناقضة، التي أشرنا إليها، حالةَ انقسامٍ مجتمعي، ولا سيما داخل الوسط الشيعي؛ إذ إنّ الكتلة الصدرية إذا كانت قد حصلت على 72 مقعدًا، فإنّ الأطراف الشيعية الأخرى، الموالية لإيران، قد حصلت بمجموعها (ائتلاف دولة القانون، والفتح) على أكثر من 50 مقعدًا. ويتمحور الانقسام الحادّ بين التنظيمات السياسية الشيعية حول طريقة إدارة الحكم والدولة، وطبيعة علاقتها بإيران. وهو انقسام ليس جديدًا، غير أنّ احتجاجات 2019 عزّزت هذه الانقسامات؛ لأنها كشفت فشل منظومة الحكم، ومأزقها، وأزماتها البنيوية.
المشهدان السياسيان الكردي والسُّني شهدا تراجعًا لبعض القوى الكبيرة، وظهورًا لافتًا لقوى جديدة
وبإزاء هذا الانقسام، تعكس نتائج الانتخابات تحوّلًا جذريًّا في موقف التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر من مسألة الدولة والحكم، فقد تحوّل التيار من كونه مليشيا (جيش المهدي)، نشأت في ظروف الاحتلال الأميركي، إلى تنظيم سياسي أقرب إلى الحزب، ثم أصبح جزءًا من الدولة ومنظومة الحكم، وصولًا إلى احتمال أن يتولّى التيار بنفسه إدارة الحكم وفق نتائج الانتخابات الأخيرة. وتكشف التعبئة الكبيرة التي نظّمها التيار لمشاركة أتباعه في الانتخابات، عن هذه الرغبة؛ ذلك أنّه لم يسعَ إلى الفوز في الانتخابات فقط، بل إلى أن يكون ثمّة فرق كبير في الأصوات بينه وبين أقرب منافسيه من الأطراف الشيعية أيضًا، على نحوٍ يؤهله لترشيح رئيس وزراء مُنتمٍ إلى التيار وعضو فيه، أو مستقلٍ ولكنه مقيّد بتوجهات التيار، بدلًا من اللجوء إلى رئيس وزراء توافقي، على نحو ما حصل في عام 2018؛ في الحال التي يكون فيها عدد مقاعد الكتلة الصدرية وعدد مقاعد منافسيها من القوى الشيعة الأخرى متقاربَين. ويبدو أن احتجاجات 2019 قد سرّعت بلورة هذه الرؤية لدى التيار؛ فمقتدى الصدر، الذي انخرط في الحركة الاحتجاجية في عام 2015 وانتهى به ذلك إلى إطلاق مبادرة إصلاحية في عام 2016 وتحالف مع القوى المدنية في انتخابات 2018، قد يئس من إمكانية الإصلاح من خلال الصيغ التوافقية القائمة. وقد عزّز هذا الأمر خصومته مع الحركة الاحتجاجية، في عام 2019، التي رفض الكثير من أطرافها الاعتراف بـ “أبوة” الصدر الحركة الاحتجاجية والمبادرات الإصلاحية. من هنا، تبلورت لديه رؤية مفادها تولِّي الحكم، ليكون مسؤولًا عن إصلاح النظام من الداخل.
نتائج الانتخابات سنيًّا وكرديًّا
لم يتوقف الانقسام على القوى والتنظيمات السياسية الشيعية، بل شمل أيضًا القوى السنّية والكردية. ومع أن مُنظّري التوافقية يتحدّثون عن أنّ نزاعًا بين النخب المعبرة عن الهويات الإثنية، على تمثيل هذه الهوية، يظهر، في العادة، بعد إنشاء النظام التوافقي، فإن الانتخابات وما سبقها ونتائجها كشفت كلّها، هذه المرّة، عن عدة سمات، أبرزها ما يلي:
• إنّ المشهدين السياسيين الكردي والسُّني شهدا تراجعًا لبعض القوى الكبيرة، وظهورًا لافتًا لقوى جديدة؛ إذ واصل الاتحاد الوطني الكردستاني تراجعه، بسبب الأزمة التي يعيشها منذ وفاة مؤسسه الرئيس العراقي الأسبق جلال طالباني عام 2017، فقد حصل على 16 مقعدًا. ولم تحصل كتلة التغيير كذلك، التي أنشأها السياسي الكردي الراحل نوشيروان مصطفى عام 2017، على أي مقعد، رغم أنها بدت، لحظة تأسيسها، القوةَ المستقبلية الصاعدة في المشهد الكردي. وبإزاء هذه الأوضاع، برزت قوة سياسية جديدة، تحمل اسم “الجيل الجديد”؛ إذ حصلت على تسعة مقاعد. وإذا كانت كتلة التغيير قد تشكّلت من داخل الفضاء السياسي الكردي التقليدي، بوصفها انشقاقًا داخل الاتحاد الوطني الكردستاني، قاده نائب رئيس الحزب، فإنّ الجيل الجديد يأتي من خارج هذا الفضاء؛ إذ أسّسه رجل الأعمال الكردي الشاب شاسوار عبد الواحد.
حتى لو اضطرّت إيران إلى القبول بواقع الانقسام الشيعي، فإنها ستعمد إلى منع تفرّد الصدر بواجهة الحكم الشيعي العراقي
• سُنيًّا، اختفت كُتل أساسية، كانت قد سيطرت على المشهد السياسي السُّني ما بعد عام 2003؛ من قبيل الحزب الإسلامي العراقي، وتيار السياسي الموصلي أسامة النجيفي، وجبهة الحوار الوطني بزعامة صالح المطلك؛ إذ لم تحصل هذه الكتل على أي مقعد، وكان ذلك لمصلحة بروز كتلتين أساسيتين، “تقدّم” و”عزم”. والكتلة الأولى جديدة، أسّسها رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، مستفيدًا من شبكات المصالح التي أقامها، حين كان محافظًا للأنبار، ورئيسًا لمجلس النواب. وعلى نحو عام، يبدو المشهد السُّني أكثر تقلبًا وأقلّ استقرارًا، مقارنةً بالشيعة والأكراد؛ إذ يتّصف بسيولةٍ لافتة، فتظهر كُتل وتختفي، وهو ما يمكن تفسيره بحداثة الهوية السُّنية، من حيث إنها هوية سياسية ظهرت في أجواء الانقسام الطائفي بعد عام 2003، في حين أنّ الهويتين، الشيعية والكردية، أعرق وأكثر استقرارًا. وبإزاء هذا المشهد، عرف المجالان، الكردي والسُّني، بروزًا وهيمنة لقوة سياسية على حساب القوى الأخرى. ففي المجال الكردي، تفوّق الحزب الديمقراطي الكردستاني (بزعامة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني) تفوّقًا كبيرًا على أقرب منافسيه؛ إذ حصل على 33 مقعدًا، في حين حصل غريمه التقليدي وأقرب منافسيه، الاتحاد الوطني الكردستاني، على 16 مقعدًا، كما أسلفنا. وفي الوسط السُّني، حصلت كتلة “تقدّم” بزعامة الحلبوسي على 37 مقعدًا، في حين حصلت أقرب كتلة منافسة لها “عزم”، بزعامة السياسي ورجل الأعمال خميس الخنجر على 13 مقعدًا فقط.
دور العامل الخارجي
بقدر ما تحمل نتائج الانتخابات من دلالاتٍ سياسية، لا يمكن الركون إلى أنها ستحدّد بمفردها ملامح الحكومة العراقية المقبلة؛ إذ ستعمد القوى الأجنبية النافذة والمؤثرة في العراق، ولا سيما إيران، إلى أن تكيّف النتائج على نحوٍ يتماشى مع تصوّرها لمصالحها ونفوذها في العراق. وهنا، ينبغي أن يؤخذ أمران في الحسبان: الأول، إصرار إيران على ضمان وحدة الجسم السياسي الشيعي؛ إذ على الرغم من أنّ الانقسامات الشيعية قديمة، كانت إيران تضغط في كل انتخابات، وتستعمل نفوذها، حتى تشارك القوى والتنظيمات السياسية الشيعية في قائمةٍ واحدة، ذلك أنها تعتقد أن نفوذها في العراق يتأتّى من وحدة الجسم السياسي الشيعي. الثاني، أن إيران، حتى لو اضطرّت إلى القبول بواقع الانقسام الشيعي، فإنها ستعمد إلى منع تفرّد الصدر بواجهة الحكم الشيعي العراقي؛ فهي لا تعدّه من حلفائها المقرّبين، وإنْ كانت له “علاقات طيبة” معها؛ إذ اتخذ، مرارًا، خطواتٍ لا تنسجم مع سياساتها وتوجهاتها، ولا سيما في علاقته بالدول العربية وانفتاحه عليها، خصوصًا السعودية، ولا سيما أنّ ذلك قد جاء في ذروة الصراع الإيراني معها. من هنا، سيتوقف تشكيل الحكومة على أمرين: الضغط الإيراني في اتجاه أن يشكّل الفرقاء الشيعة حكومةً توافقيةً تشمل الجميع، ومقدرة الصدر على الصمود أمام هذا الضغط ومنع قيام حكومة توافقية تضم خصومه من الأحزاب الشيعية. وعلى الرغم من أن الصدر يحتاج ما لا يقل عن 96 مقعدًا لضمان حصوله على ثقة مجلس النواب؛ ما يعني أنه مضطرٌّ إلى بناء تحالفاتٍ، فإنه، بحسب ما أعلن في خطابه الأخير، يريد أن يبتعد عن شكل الحكومة التوافقية، وأن يتحالف بدلًا من ذلك مع بعض الكتل الكبيرة الفائزة لتشكيل حكومة “أغلبية سياسية”، وهو أمرٌ يختلف فعلًا عن النمط الذي تشكّلت عليه جميع حكومات ما بعد عام 2003.
مركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات