أثار فوز قائمة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الذي حارب القوات الأميركية خلال سنوات الاحتلال، بأكبر عدد من مقاعد البرلمان العراقي في انتخابات العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، ردود فعل متباينة في واشنطن. ففي الوقت الذي اعتبر فيه البعض أن الصدر يشكل تحدياً تكتيكياً لإيران، استبعد آخرون تقليص نفوذ إيران في العراق أو حدوث تغيير في استخدام طهران الأراضي العراقية للضغط على الأميركيين، طالما استمرت مفاوضات الملف النووي عالقة، بينما فضل آخرون التريث حتى يتم حسم من سيقود الحكومة العراقية الجديدة.
في انتظار التغيير
عندما تحدى العراقيون موجة العنف واختلال الأمن، وخرجوا للتصويت في الانتخابات الأولى لبلدهم بعد عامين من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، وأطاح الرئيس صدام حسين، صرح الرئيس الأميركي، آنذاك، جورج دبليو بوش، بأن “العراقيين الآن يقررون مصير بلادهم”، ولكن، بعد مرور 16 عاماً وخمسة انتخابات برلمانية، ما زال العراقيون ينتظرون أن تتحول كلمات بوش إلى حقيقة، ويتحقق التغيير المنشود، إذ لم يشارك من الناخبين المسجلين سوى 41 في المئة، وهي أدنى نسبة مشاركة في حقبة ما بعد صدام، ما يبرز بشكل واضح خيبة أمل العراقيين تجاه التجربة الديمقراطية التي بشرت بها إدارة بوش، وكانت تنتظر أن تفرز قادة يتمتعون بالشعبية والنزاهة، ويبتعدون عن إيران ويتقربون من واشنطن.
غير أنه عبر الانتخابات العراقية المتتالية، كانت النغمة الشائعة للعراقيين هي أن الفصائل القديمة نفسها تتنافس ضمن نظام غارق في الفساد والمحسوبية، وأهدر ثروة الدولة الغنية بالنفط، وفشل في توفير الوظائف والخدمات الأساسية لمواطنيه، وأن النظام مُحصن ضد الإصلاح، وأن الانتخابات لن تعيد إلا الوجوه والأحزاب نفسها المسؤولة عن الفساد وسوء الإدارة اللذين ابتُلي بهما العراق لعقود، وهو ما يفسر بشكل كبير انعدام ثقة فئة الشباب، التي تمثل أكبر فئة سكانية، في النخب السياسية وفي عملية الانتخابات.
تقديرات متباينة
لكن فوز مقتدى الصدر، الذي قاد “جيش المهدي” في مقاومة شيعية ضد القوات الأميركية، بالانتخابات الأخيرة، استقبله المراقبون في واشنطن بتقديرات متباينة بشأن ما يمكن أن يحدثه من تغيير في معادلات سياسية معقدة. ففي حين يقدم الصدر نفسه على أنه نصير للفقراء الشيعة وقومي التوجه، وأنه سيوقف التأثيرات المتنافسة المزعزعة للاستقرار بين الولايات المتحدة وإيران، إلا أن عدداً من وسائل الإعلام الأميركية راهنت على أن يكون مقتدى الصدر وتياره في البرلمان قوة معادية لإيران وأداة فعالة لوقف نفوذ طهران في العراق أو تقليله على الأقل.
وتستند هذه النظرة في جزء منها إلى أن فوز الصدر قد يزيد من فرص تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء لولاية ثانية، وهو ما سيحظى حتماً باستحسان الولايات المتحدة والغرب، بالنظر إلى الإشارات التي أطلقها الكاظمي لكبح جماح الميليشيات الأكثر تشدداً، والمتحالفة مع إيران، وتتهمها واشنطن باستهداف القوات الأميركية وقتل المعارضين وترهيبهم، بمن فيهم النشطاء المؤيدون للديمقراطية.
كما أن مقتدى الصدر البالغ من العمر 47 عاماً، قال في خطاب متلفز بعد إعلان نتيجة الانتخابات، إن فوز تياره كان انتصاراً على الميليشيات، وإنه سيسعى إلى كبح جماحها، مؤكداً أنه من الآن فصاعداً ستكون الأسلحة تحت سيطرة الدولة وحدها. وفي إشارة إلى الولايات المتحدة وقوى أخرى، قال إن السفارات الأجنبية ستكون موضع ترحيب للعمل في العراق طالما أنها لا تتدخل في شؤونه الداخلية.
حسابات معقدة
لكن الصدر الذي أعلن أنه سيختار رئيس الوزراء المقبل، يحتاج إلى تحقيق رؤيته إلى تحالف قوي يضمن له تشكيل الائتلاف الأكبر في البرلمان لفرض اسم رئيس الوزراء، غير أن حلفاء الصدر من تحالف “قوى الدولة الوطنية” الذي يضم رجل الدين الشيعي عمار الحكيم ورئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، خسروا في هذه الانتخابات خمسة مقاعد من نحو 40 مقعداً في البرلمان المنتهية ولايته. ويعتقد متخصصون في الشأن العراقي في مركز الولايات المتحدة للسلام أنه لن يكون من السهل على الصدر ترجمة شعبويته إلى نفوذ سياسي فعلي، إذ يتطلب ذلك رؤية محددة وجدول أعمال واضح المعالم وتحالفات ثابتة ومؤسسة قوية لدعم العمل الشاق الذي يجب القيام به، بينما يبدو أن كثيراً من هذه الخصائص مفقودة في حركة الصدر حالياً.
ولهذا، قد يكون من السابق لأوانه استنتاج أن فوز الصدر في الانتخابات سيعطيه القوة التي يسعى إليها، ذلك أن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، رئيس ائتلاف “دولة القانون” الموالي لإيران، يتفاوض مع شركاء محتملين لتشكيل تحالف يقوده. ومن المحتمل أن ينضم إليه قادة الميليشيات الشيعية والمستقلون الشيعة كجزء من استراتيجية لتوحيد الفصائل الشيعية في كتلة واحدة، تستثني الصدريين.
علاوة على ذلك، فإن اختيار رئيس الوزراء لا يعتمد على الانتخابات بقدر ما يعتمد على إجماع بين الشيعة الذي كثيراً ما تسهله إيران. ولذلك ليس من المعروف الآن من لديه أفضل فرصة لتولي منصب رئيس الوزراء الذي من المرجح أن يتم التوافق عليه وحكومته عبر عملية مطولة تتضمن مفاوضات خلف الكواليس يرجح البعض أن تستمر لأشهر عدة، وقد تمتد إلى الربيع المقبل.
شكوك تجاه الصدر
وحتى لو تمكن مقتدى الصدر من جمع قوى الائتلاف الكافية لتشكيل التكتل الأكبر في البرلمان، فإن هناك من يشكك في قدرته على معاداة إيران، أو مقاومة نفوذها. فعلى الرغم من أنه زعيم كاريزمي قام منذ حرب العراق بتعبئة ملايين العراقيين، وقاد “جيش المهدي” الذي قاتل بلا هوادة ضد الاحتلال الأميركي، وله الآن يد في كل وزارة، وموظفوه قضاة ومديرون ومسؤولون في شركات نفطية ومحاضرون جامعيون ومسؤولون تنفيذيون في البنوك، فإنه لا يمكن الوثوق في استمرار مواقفه. فقد غير لهجته مرات عدة طوال حياته السياسية، وتعاون مع إيران في الحملة ضد الولايات المتحدة في الفترة بين عامي 2006 و2008، لكن عندما بدأت إيران استقطاب رجاله لتشكيل ميليشيات جديدة تتنافس على السيطرة على الشوارع، تحول إلى العمل ضد النشطاء الإيرانيين في العراق.
وفي عام 2018، غير مساره مرة أخرى عندما تعاون مع الميليشيات الشيعية لحمل رئيس الوزراء، آنذاك، عادل عبدالمهدي، على الاستقالة. وخلال التظاهرات الحاشدة التي شهدها العراق عام 2019، ادعى أنه يدعم مطالب الشعب، وأرسل أنصاره للانضمام إلى المتظاهرين، ونصب خيام الاحتجاج، وزود المتظاهرين بالطعام والإمدادات الطبية، لكن المتظاهرين، ومعظمهم من شباب الطبقة الوسطى، كانوا متشككين حياله، فأقاموا معسكرات احتجاجية منفصلة، ولم يسمحوا لأتباع الصدر بالانضمام إليهم. وكانت شكوكهم واقعية. ففي حلول نهاية العام، غير الصدر موقفه مرة أخرى، وبدأ مهاجمة المتظاهرين، إذ حطمت قواته خيام المتظاهرين، واشتبكت معهم، ما أدى إلى إصابة المئات وقتل كثيرين.
لا استعداء لإيران
وبينما قد يكون الصدر على خلاف تكتيكي مع النظام الإيراني، لن يتدخل بطريقة عدائية ضد الإيرانيين، ولن يفعل ذلك حلفاؤه في الائتلاف، إذ لا تزال طهران تسيطر على عدد من العناصر الاقتصادية والدينية المهمة، فهي المورد الرئيس للكهرباء، وتعتمد عليها محافظات العراق الجنوبية في إمدادات المياه، كما أنها الشريك التجاري الأهم للعراق.
ونظراً لأن العراقيين، البالغ عددهم 40 مليون نسمة، يهتمون إلى حد كبير بالاقتصاد، بما في ذلك البطالة والخدمات المتدنية وانقطاع التيار الكهربائي، بالإضافة إلى التعليم وسلامتهم الشخصية، فلن يكون من السهل استعداء إيران من قبل الصدريين وحلفائهم إذا نجحوا في تشكيل إئتلاف حاكم.
وعلى الرغم من أنه من السابق لأوانه الحكم على كيفية تأثر علاقة العراق بالولايات المتحدة نتيجة هذه الانتخابات، فإن غالبية التقديرات في واشنطن تشير إلى أن الإيرانيين سيستمرون في استخدام بغداد للضغط على إدارة جو بايدن، طالما أن محادثات فيينا لا تؤدي إلى رفع العقوبات عن إيران. ومن المرجح أن يحرص الإيرانيون على بقاء تحدي الولايات المتحدة في العراق ضمن سقف معين، بحيث لا يعرقل ذلك احتمالات التوصل إلى اتفاق مع الأميركيين بشأن رفع العقوبات.
اندبندت عربي