الحرب ضد السعودية التي لم تنطفئ نيرانها بعد

الحرب ضد السعودية التي لم تنطفئ نيرانها بعد

يستطيع الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، أن يرى كم كلفته الحملة الشرسة التي شنتها أجهزة الدعاية القطرية والتركية لنحو سنتين.

لقد تم تشويه صورته إلى أقصى ما يمكن للتشويه أن يفعل. ولقد بدا حيال تلك الحملة مقيدا بمعاييره والتزاماته هو، وكان بحاجة إلى طاقة من الصبر لا يقدر عليها إلا الذين ألزموا أنفسهم بضوابط صارمة.

ولكنه ما يزال يدفع الثمن. إذ لا يبدو أن مبادرة “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر” ستكون كافية لردم الهوة بين الصورة والواقع. ولا حتى زراعة 50 مليار شجرة، سوف يمكنها أن تقتلع السموم التي تم نثرها على أرض الوقاحة المجردة والحقد الأجرد.

الوقت يمكنه أن يكفل تخفيف الأضرار. إلا أن البحث عن متسع له، يضيق كلما تزاحمت القضايا التي تتطلب من المملكة أن تلعب فيها دورا. ولسوف يظل التشويه عنصرا من عناصر الابتزاز التي لا تنتهي.

سمعة الـ”بي.بي.سي” في”الحياد”، ليست سوى خدعة ظلت تنطلي على مَنْ شاؤوا أن تنطلي عليهم. إلا أنها ما تزال سلاحا فعالا لتشويه الصور كلما أرادت الخارجية البريطانية أن تمارس الابتزاز مع أي أحد

عمل جبار، وأخلاقي، شاسع المدى، لإعادة تشجير أراضي الشرق الأوسط، والخطط التي ترمي إلى بلوغ الحياد الكربوني لمواجهة التغير المناخي، يكفي للإقرار به كعمل يؤهل القائمين به لنيل جائزة نوبل للسلام. إلا أنه بالنسبة إلى الأمير محمد بن سلمان يبدو بعيد المنال، بسبب تلك الحملة.

الناشطة البيئية الكينية، ونغاري ماثاي حصلت على الجائزة في العام 2004، لأنها أشرفت على زراعة 30 مليون شجرة.

محطات إعلام غربية مثل “سي.بي.أس نيوز” و”بي.بي.سي”، على سبيل المثال، سارعت مع إعلان المبادرتين لزراعة 50 مليار شجرة، إلى فتح أبوابها لهجوم شرس ضد الأمير محمد بن سلمان، من متهم بجرائم اختلاس يدعى سعد الجبري، أراد (كما أرادت المحطتان) أن يوقد حطبا جديدا فوق الرماد.

وكان في ذلك ما يكفي لكي ندرك أن هناك شيئا مهما هو الذي ينقص في مواجهة الشراسة: شراسة مماثلة.

الإعلام صانع صور. وهو محطمها. وما لم يمكن العثور على سبيل لبناء أدوات إعلامية لا تلتزم بما يلتزم به الإعلام الرسمي، فان سياسات التشويه ستظل تلحق المزيد من الأذى.

الغربيون، بالمناسبة، يتأثرون بمضايقات الإعلام أكثر مما نتأثر به نحن. صحيح أنهم يتغطون بلحاف الترفع على ما يُفترض أنه “حرية رأي” و”حرية صحافة”، إلا أنهم يخشون من ظهور صورة بلدانهم أو سياساتها أو قياداتها أو تاريخها على نحو يفترضونه ضارا، حتى ولو كان تجسيدا للحقيقة.

إعلام مرتبط بالدولة، أو خاضع لمعاييرها، هو آخر ما يمكنه أن يخدم. وفي المقابل، فإن إعلاما مطلق السراح، هو الوحيد الذي يمكنه أن يقدم البديل المناسب.

جرب أن تعرض فضائح المملكة المتحدة. وهي كثيرة. وسترى الاتصالات لا تنقطع من وزارة الخارجية للشكوى. ساعتها يمكن التساؤل: وما هي مشكلتكم مع “حرية الإعلام”؟ أو لماذا “حلال لكم حرام على غيركم”؟

جرائم السي.آي.أيه في أميركا اللاتينية يمكنها أن تصنع مسلسل رعب لا ينتهي. فلماذا يجري التغافل عن تاريخ أسود سطرت له العشرات من الكتب؟ وهل من الضروري نسيان جرائم الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، أو جرائم إسرائيل في فلسطين، أو جرائم فرنسا في الجزائر أو القارة الأفريقية؟

ما أريد قوله، هو أننا نفرض قيودا على أنفسنا، لا يفرضها الآخرون على أنفسهم. وهذا كثيرا ما يجعلنا نبدو لقمة سائغة لحملات التشويه التي نظل ندفع ثمنها زمنا طويلا.

أن تبدو أعزل وسط الذين يتسلحون بالخناجر، لا يوفر أي ضمانة بالنجاة، اعتمادا على ما تغريهم به. هذه معادلة غير صائبة أصلا.

لقد تخلت السعودية منذ بعض الوقت عن الخشية مما يقوله الإعلام المضاد عنها. إلا أنها ظلت عرضة لهجماته.

تحصنت السعودية بمحطات تلفزيونية تبدو مؤثرة وثرية. إلا طاقمها التحريري ظل يعاني من القيود والالتزامات الزائدة عن الحاجة.

“العربية” و”الحدث” على سبيل المثال قناتان مرموقتان من مختلف الوجوه الفنية والإدارية والتحريرية، إلا أن القيود فيهما ظاهرة. وبالدرجة الرئيسية لأنهما تدفعان ثمن القرابة والنسب. وهذا قيد ما يزال من الممكن التحرر منه.

الإعلام الخاص، الذي يتكئ على التزام استراتيجي عريض، يكفل ذلك التحرر، ويظل يؤدي الغرض المنشود منه.

سمعة الـ”بي.بي.سي” في”الحياد”، ليست سوى خدعة ظلت تنطلي على مَنْ شاؤوا أن تنطلي عليهم. إلا أنها ما تزال سلاحا فعالا لتشويه الصور كلما أرادت الخارجية البريطانية أن تمارس الابتزاز مع أي أحد.

والسعودية التي تخلت عن التأثر بحملات التشويه في الصحافة العربية، يمكنها أن تتحرر من تشويهات الـ”بي.بي.سي”، و”سي.بي.أس نيوز” وغيرها، بتخل مماثل. إلا أن ذلك نصف الشوط فقط. النصف الآخر أن هو تطلق سراح ما لديك من طاقات وموارد، وأن تستثمر في صناعة بناء الصورة أكثر مما يستثمرون، بوسائل باردة مماثلة، تحت غطاء مماثل يدعى “حرية الإعلام” والصحافة.

الحياد مجرد كذبة كبيرة، لا يليق بأي صحافي أن يزعمها، لأنه إما أن يكذب فيها على الناس، أو يكذب فيها على نفسه.

على مستوى التجربة الشخصية، فلقد أمضيت 42 عاما في عالم الصحافة، تقلبت فيها كل منقلب، ولم أكن محايدا، ولا ليوم واحد.

ولا يحتاج الأمر تنظيرا. فإذ تعمل في عالم محموم، فإنك لا تستطيع أن تكون محايدا. الكتابة بحد ذاتها موقف. ودون ذلك، فإنها مجرد ضجيج.

وكائنا ما كان الموقف، فإنه ضروري، لكي تنتمي. الكاتب اللامنتمي، ليس سوى أسطورة. وكذلك المؤسسات الإعلامية.

لا يبدو أن مبادرة “السعودية الخضراء” و”الشرق الأوسط الأخضر” ستكون كافية لردم الهوة بين الصورة والواقع

المفارقة في القيود والالتزامات بين مؤسساتنا الإعلامية والمؤسسات الغربية هي أنها، هناك، قيود تتعلق بالاستراتيجيات فقط، ولا تمتد إلى التفاصيل، ولا إلى كل ما يمكن أن يقوله هذا الصحافي أو ذاك المذيع. والسؤال الجريء ليس مسموحا به فقط، بل إنه مطلوب لنفسه. أما أن تجبر المذيع أو الصحافي على أن يحرك فمه في قالب، فهذا مخز، وهو دليل على الضعف.

وفي عالم لا حياد فيه، فإن ممارسة الخدعة قد يبدو مفيدا، كقواعد منهجية في الأداء، إلا أنه يتعين أن يخرج من القمقم ليكون حرا.

ما تلتزم به الدولة، لجهة معاييرها شيء، وما يلتزم به الإعلام شيء آخر.

وعندما يكون تشويه الصورة عنيفا وضارا، فإن تشويها عنيفا وضارا هو الرد الصحيح، على الأقل لأنه متناسب.

تشويه الصورة، نمط من أنماط الحرب. وتكاليفها باهظة للغاية أحيانا. والاستسلام لعواقبها ليس هو الخيار الصحيح. إنه ليس خيارا أصلا.

العرب