احتفلت تركيا يوم أمس بعيد تأسيس الجمهورية الـ98، وكان العنوان الرئيسي في هذه الفعالية زيارة المسؤولين الأتراك لضريح مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية، وتضمن الزوار قادة الأحزاب والبرلمان والقضاء والأركان، وعلى رأسهم، بالطبع، رجب طيب اردوغان، الذي وضع إكليل زهور على ضريح أتاتورك، و«جدد امتنانه لأتاتورك ورفاق دربه والشهداء».
يمكن اعتبار الزيارة الرمزية طقسا بروتوكوليا تقليديا يقوم به المسؤولون الأتراك على سبيل الواجب السياسي والدبلوماسي.
يمكن أيضا اعتبارها مناسبة لتأمل التاريخ التركيّ الحديث، ومقارنته، التي قد تكون مفيدة، بتاريخ الجمهوريات (والملكيات) العربية، والمشاريع الكثيرة التي حملت في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي عناوين كبيرة، من الوحدة العربية والاشتراكية والحرية، وانتهت في العشرين سنة الماضية من القرن الحالي إلى عناوين متواضعة يبدأ المتفائل منها بوعود التنمية والاستقرار والتسامح و«السعادة» وينتهي السلبي منها بمحاولات تبرير الانقلابات العسكرية بدعوى وجود «خطر داهم» (أكثر من تلك الانقلابات!) أو «مكافحة الفساد» عبر حكم دكتاتوري يمأسس الفساد ويجعله مطلقا!
لا تبدو الأحوال، بالنسبة لمنتقدي الحكم الحالي لإردوغان وحزبه «العدالة والتنمية» ورديّة، فهناك مشاكل اقتصادية واضحة يعبّر عنها هبوط سعر الليرة التركية المتكرر، وهناك انتقادات لتزايد المظاهر السلطوية للحكم، وهناك المعركة التي لا تنتهي مع حزب العمال الكردستاني وما تتركه من آثار على الديمقراطية التركيّة، وهناك اعتماد الحزب الحاكم المتزايد على «الحركة القومية» مما يعطي التحالف الحاكم طابعا محافظا وقوميّا متشددا ويبعده أكثر عن المرونة السياسية وجوانب الليبرالية التي ميّزت صعوده إلى السلطة، وهناك الخلافات الحادّة مع الدول الغربية وهو ما عبّر عنه تهديد اردوغان بطرد عشرة سفراء.
يمكن النظر إلى نشوء الحركات الإسلامية الطابع في تركيا كاستعادة للتاريخ العثماني والهوية الإسلامية والعلاقات مع العالم العربي في ردّ على العلمانية الصارمة التي مثّلتها سياسات أتاتورك، وبالخصوص على السياسات البطشية التي اتبعتها الانقلابات العسكرية المتتابعة بزعم الدفاع عن «علمانية» الدولة التركية عبر استهداف اجتثاثي لمظاهر الدين والهوية والتاريخ.
بدلا من الانقلابات، قدّمت الديمقراطية التركية حلولا لذلك الاستعصاء التركي بين نموذجين متطرفين، ورغم الاتجاه الفردي وتعزيز منصب الرئاسة لدى اردوغان، فإن المنظومة السياسية ظلت ديمقراطية مما أدى إلى توازن عقلاني بين علمانية الدولة وديمقراطيتها، وبين إرث أتاتورك المقاوم للاستعمار الغربي، والموحد للأمة التركية، والطامح لإيصالها بنظم أوروبا والعالم الحديث، وإرث اردوغان الذي صالح مستقبل تركيا بتاريخها، وديمقراطيتها بهويتها الإسلامية المنفتحة على العالم.
على المقلب الآخر من العالم المسمى «الوطن العربي» انقلبت شعارات الوحدة على يد أحزاب مثل «البعث» إلى صراع دمويّ مع كل الجيران العرب والإقليميين، وتم استخدام شعار الاشتراكية لتحويل الدولة بجملتها إلى مزرعة خاصة للزعيم وأبنائه وعائلته الأقربين، أما شعار الحرية فأصبح كابوسا مع صيرورة تلك البلدان إلى معتقلات واسعة، وتحول «الأمن» إلى اسم مقلوب للرعب والإرهاب والقتل.
رفضت أغلب النظم العربية، على اختلاف أشكالها السياسية، الديمقراطية، أو حولتها، في بلدان كالعراق ولبنان، إلى آلية طائفية لتقاسم المناصب والنفوذ وتبادل منافع الرشوة والفساد، أما البلدان التي نجحت في قلب طغمها الحاكمة فقد تعاونت الطغم الأخرى على إغراقها في المشاكل السياسية والاقتصادية وتمويل أنشطة تهشيم تلك الديمقراطيات الهشة الناشئة وصولا إلى عودة الانقلابات العسكرية، عودة غير حميدة، وفي مؤشر إلى عودتنا، مجددا، إلى الظلام، الفعلي والمجازي.