أعادت المواجهات المسلحة التي حدثت يوم 27 تشرين الأول/أكتوبر في محافظة ديالى شمال شرق العاصمة بغداد، إلى الأذهان مأساة الاقتتال الطائفي والتأجيج والتخندق، الذي بلغ أوج تصاعده عام 2006 إبان الحرب القذرة التي شهدها العراق. البعض أشار إلى أنها ورقة سياسية يلعبها الفرقاء السياسيون قبيل تشكيل الحكومة المقبلة، بينما علق آخرون متهمين حكومة الكاظمي بالفشل في احتواء التهديدات الأمنية والاكتفاء بإطلاق التصريحات الفارغة، ليبقى المواطن العراقي المسكين في النهاية هو الخاسر الأكبر.
يمكن تلخيص أحداث ما بات يعرف إعلاميا بـ»مجزرة المقدادية» بما يلي: بداية الأحداث كانت اعتداءً إرهابياً لمسلحي تنظيم الدولة (داعش) استهدف قرية الرشاد، التي تقطنها عشيرة بني تميم الشيعية، مخلفاً 14 قتيلاً وأكثر من 15 جريحاً، ليأتي الرد الانتقامي من مسلحين من أهالي الضحايا، مدعومين بعربات رباعية الدفع تابعة لـ»الحشد الشعبي» ليتم اقتحام قرية نهر الإمام السنية، المجاورة لقرية الرشاد، بدعوى أن الإرهابيين قدموا منها ونفذوا هجومهم.
وقام المسلحون بقتل 12 شخصاً، بينهم سيدتان، كما أحرق مركز صحي ومسجد وعدة منازل، وتم تجريف بعض البساتين، ونتجت عن الاقتتال موجة نزوح من قرية نهر الإمام إلى مناطق مجاورة، من دون أن تتمكن قوات الجيش والشرطة من إيقاف الهجمات الانتقامية بين الطرفين. السؤال الأبرز الذي طرح مع تصاعد الأزمة هو؛ لماذا بقيت مناطق خطوط الصدع غير مؤمنة، وتغيب عنها سلطة الدولة الحقيقية؟ فالأماكن المختلطة طائفيا وعرقيا، ما زالت مناطق رخوة متروكة للتنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة تصول وتجول فيها. بعض المراقبين يرون أن مناطق الصدع متروكة تحت رحمة المتصارعين الطائفيين، ليستثمر السياسيون ذلك ويحولوه إلى أوراق ضغط انتخابية، ومن ثم سياسية في جولات التنافس وتشكيل الحكومة والحصول على المناصب. بينما أشار بعض المعلقين إلى «أن هناك مجاميع من تنظيم داعش تحاول أن توجد لها أرضية جديدة في تلك المناطق أو عودة ثانية، لأن تلك المناطق شهدت معارك ضارية في السابق، خصوصا قرى المقدادية في محافظة ديالى باتجاه مناطق خانقين». لكن بعض المسؤوليين الأمنين صرحوا للإعلام، بأن الأسباب التي تقف وراء مجزرة المقدادية الأخيرة هي «خلافات نشبت بين مسؤول بارز في محافظة ديالى وابن عمه تتعلق بقضية الترشيحات في الانتخابات، والناخبين في قرى تابعة للمقدادية ذات الغالبية الشيعية من قبيلة بني تميم، كانت وراء ما حصل».
ويبدو أن الطريق إلى السلم الأهلي في العراق، ما زال وعرا، وأن خطوط الصدع الطائفي أخذت تتحول إلى خنادق طائفية وعرقية
وعلى هامش ما حصل في المقدادية، كيف يمكن أن نقرأ الفيديو المسرب الذي ظهر فيه أحد مشايخ بني تميم، القبيلة المنكوبة في قرية الرشاد، يحتد ويوبخ هادي العامري، أحد أبرز قيادات الحشد الشعبي ورئيس كتلة الفتح؟ إذ قال الشيخ مصطاف التميمي لهادي العامري، المتحدر أصلا من مدينة ديالى «أنتم سبب مشاكلنا، أنتم الأحزاب، فشلتم أمنيا واستخباريا ولم تقدموا لنا شيئا». فأجابه العامري «لقد دافعنا عنكم وحميناكم بدمنا» فرد عليه التميمي «لم تدافعوا عنا، ولم تقدموا لنا شيئا، وكل مشاكلنا بسببكم». هل يمكن أن نقرأ ذلك على أنه ترجمة لما حصل في الانتخابات الأخيرة، وما تضمنته من عقاب الناخب الشيعي لكتلة الفتح، التي عانت من تراجع واضح في عدد مقاعدها في البرلمان؟ البعض قرأ ما حصل بأن نفوذ وسطوة الميليشيات أخذت بالافول والتراجع، وستتراجع أكثر وأكثر نتيجة الفشل المتراكم في ملفات الأمن والخدمات. مكتب العامري من جهته علّق رسميا على ما حصل في الفيديو المسرب بالقول: «نود أن نوضح أن الحاج العامري ذهب إلى قرية الرشاد في محافظة ديالى ليواسي أبناء منطقته بالفاجعة التي ألمت بهم، فهو يعد نفسه صاحب المصاب، ويشعر بألم الفاجعة، ولم يترفع عن أهله وناسه، ولم يخش الحضور بينهم، وهم في حالة توتر وغضب» وتابع البيان «نؤكد هنا أن الحاج العامري يتفهم موقف الشيخ الذي عاتبه بلهجة متوترة، والحوار الذي دار بينهما، حيث يتقبل العامري النقد والعتب من الشارع برحابة صدر تسع الجميع، خاصة من يعدهم أهله وأبناء عمومته. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الحاج العامري ومنظمة بدر وتحالف الفتح، ليس لديهم أي مسؤولية تنفيذية في الجهاز الأمني، ومع ذلك اختار أن يذهب بنفسه إلى محافظته».
ويبدو أن التوجه الرسمي لفصائل الحشد الولائية، تجاه ما حصل في المقدادية تمثل في كيل الاتهامات للحكومة وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية، باعتبارها مقصرة في مهامها، والتنصل من المسؤولية والقول إن مناطق النزاع وخطوط الصدع غير تابعة لقواطع عمليات الحشد، لذلك يجب أن ينصب اللوم من وجهة نظرهم على الحكومة، التي لم تنفذ واجباتها تجاه المناطق الممسكة بها. فقد حمّل عضو تحالف الفتح النائب حسن سالم الحكومة مسؤولية ما حصل في المقدادية وقال في بيان رسمي؛ إن الحكومة تستخف بأرواح الناس من خلال ضعف التعزيزات العسكرية والاستخباراتية وعدم تطهير تلك المناطق من الإرهاب». وأضاف حسن سالم اتهاما خطيرا مفاده؛ أن بعض القيادات الأمنية تسكت وتتستر على المجاميع الإرهابية الموجودة في ديالى، من دون أن يذكر تفاصيل أو أدلة تدعم اتهامه. كما أكد المتحدث باسم «كتائب حزب الله» أبو علي العسكري تعليقا على أحداث المقدادية، بتغريدة على تويتر، قال فيها؛ إن «إرادة دول الشر بعثت برسالتها الجبانة إلى شعبنا الأبي، عبر أداتها الإجرامية بأن ليس أمامكم غير الرضوخ، وهو ما يستدعي أن يأخذ الحشد دوره في طرد الأشرار وإخماد الفتنة، بعيدا عن قيادة العمليات المشتركة، التي تم اختراقها من قبل عصابات الكاظمي وأرباب الدواعش والبعثيين».
الحل الحكومي من جانبه بدا متواضعا كالمعتاد، إذ أطلق رئيس الحكومة تصريحات عالية الصوت، فارغة المحتوى، وسيترك الموضوع ليلفه الغموض مع وعود فتح التحقيقات كالمعتاد، ليبقى الحال على ما هو عليه وينتظر تفجيرا أخر للأزمة لتشتعل الأجواء من جديد. فقد غرد رئيس الحكومة المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي قائلا «جرّب الإرهابيون فعلنا.. نفي بما أقسمنا.. سنطاردهم أينما فرّوا، داخل العراق وخارجه؛ وجريمة المقدادية بحق شعبنا لن تمر من دون قصاص.. أللهم فاشهد. كلما أوغلوا في دماء الأبرياء، نزداد إصراراً على أن ننهي أي أثر لهم في أرض الرافدين». ودعا الكاظمي إلى عدم السماح بأي محاولة لعودة الفرقة الطائفية، كما دعا للتكاتف من أجل محاربة الإرهاب في العراق. وشدد أثناء اجتماع المجلس الوزاري للأمن الوطني بحضور عدد من القيادات الأمنية والعسكرية على «تفعيل الجهد الاستخباراتي للقيام بدوره، وتشخيص أي محاولة لبثّ الفرقة الطائفية التي لن نسمح بعودتها».
لكن التحرك على الأرض كان محدودا، وتمثل بإرسال بعض التعزيزات الأمنية إلى قضاء المقدادية، كما وعدت الحكومة بملاحقة المتورطين في الهجوم على قرية الرشاد، إذ ذكرت وزارة الداخلية العراقية في بيان رسمي؛ «أن وزير الداخلية عثمان الغانمي، نقل تعازي ومواساة القائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي لعوائل الضحايا في قريتي الرشاد ونهر الإمام في محافظة ديالى». وأشار الغانمي إلى أن الكاظمي أوعز بفتح «تحقيق شامل في الاعتداء الإرهابي».
ويبدو أن الطريق إلى السلم الأهلي في العراق، ما زال وعرا ويعتريه الكثير من الصعوبات، وأن خطوط الصدع الطائفي أخذت تتحول يوما بعد آخر إلى خنادق طائفية وعرقية، تعزل كل طرف عن الآخر، لتزيد من صعوبة التعايش الذي لن يتم إلا بوجود دولة قانون حقيقية يخضع فيها الجميع لسيادة الدولة، ويعيش فيها الجميع في ظل ضوابط المواطنة الحقة، وعندها فقط يمكن أن نتحدث عن ردم خطوط الصدع الطائفي وطي صفحة الصراع.
صادق الطائي
القدس العربي