فتح انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان أواخر أغسطس الماضي الباب أمام توقعات بإقدام الولايات المتحدة على اتخاذ خطوة مماثلة ومفاجئة في سوريا، وبينما يرجح محللون أميركيون أن الوقت قد حان بالفعل كي تراجع واشنطن وجودها العسكري في المنطقة، تتخوف قوات سوريا الديمقراطية من انسحاب أميركي يتركها في متناول خلايا تنظيم داعش، في حين يرى المحللون أنه بعد سقوط “دولة الخلافة” للتنظيم الإرهابي أصبحت المهمة الأميركية في دمشق بلا هدف.
واشنطن – تراقب الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية بما فيها القوات التركية والروسية المتدخلة هناك وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من واشنطن، تحركات الولايات المتحدة في المنطقة مرجحين أن تقدم على انسحاب فجئي من سوريا شبيه بانسحابها من أفغانستان، خاصة مع تكرر زيارة مسؤولين أميركيين لشمال شرق سوريا خلال الأشهر الماضية، رغم أن الإدارة الأميركية تؤكد عكس ذلك تماما.
ويقول الباحث والمحلل الأميركي مايكل هول في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية إنه عندما انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان قوبلت هذه اللحظة بمزيج من الترحيب والشجب باعتبارها نقطة تحول من شأنها أن تبشر بسلسلة من الانسحابات العسكرية الأميركية في الوقت الذي تعيد فيه واشنطن توجيه استراتيجيتها الكبرى.
وأشار إلى أنه من المؤكد أن تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن حول إنهاء حقبة من “الحرب التي لا هوادة فيها” قد دعت إلى هذا التفسير. ولكن بعد شهرين من مغادرة آخر جندي أميركي لكابول تقدم الإدارة الأميركية الآن ضمانات بأنه لن يكون هناك انسحاب أميركي من سوريا، حيث تشارك قوات الولايات المتحدة في “حرب لا هوادة فيها” أخرى.
ويرى هول أن هذه الوعود بالبقاء في سوريا تمثل خطأ استراتيجيا والتزاما بمهمة غير مستدامة ليس لها هدف نهائي محدد بوضوح يمكن تحقيقه.
مايكل هول: الانسحاب من سوريا هو الخيار الأفضل أمام واشنطن الآن
ولقد تعددت أهداف الولايات المتحدة منذ لحظة تدخلها عسكريا في سوريا عام 2014 ما بين دعمها للمعارضة وقوات سوريا الديمقراطية خلال الحرب التي تشهدها البلاد إلى محاربة تنظيم داعش، حتى أنها استهدفت كذلك مواقع عسكرية تتبع الحكومة السوريا، وبات التساؤل المطروح حاليا هو: هل وجود الولايات المتحدة هناك يخدم مصالحها؟
يقول هول إن الدفاع عن الأكراد يبدو أحد العوامل الرئيسية على الأقل وراء قرار الإدارة الأميركية بتمديد نشر ما يقرب من 900 جندي أميركي متمركزين في سوريا. وفي سبتمبر تم إرسال الجنرال فرانك ماكنزي، رئيس القيادة المركزية الأميركية التي تشرف على العمليات العسكرية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، في زيارة غير معلنة للاجتماع مع مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية.
وكان الغرض من زيارة ماكنزي طمأنة الزعيم الكردي بأن قواته يمكن أن تعتمد على الدعم الأميركي المستمر. وبعد هذا الاجتماع بقليل التقت إلهام أحمد، المسؤولة الكردية التي تشغل منصب رئيس اللجنة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطي، بمسؤولين في الإدارة الأميركية في واشنطن وعلقت في وقت لاحق بالقول “قالوا إنهم سيبقون في سوريا ولن ينسحبوا”.
ويقول الباحث الأميركي إنه بدلا من استخدام القوات الأميركية كحام لأكراد سوريا، سيكون من الحكمة أكثر إنهاء التدخل العسكري الأميركي في سوريا. وعلى خلفية الحرب الأهلية التي لا يمكن تسويتها والتهديدات بتجدد الهجوم التركي ردا على هجمات الميليشيات الكردية، فإن الأكراد ليسوا في موقف يحسدون عليه. وصحيح أن المقاتلين الأكراد قاتلوا إلى جانب القوات الأميركية في حرمان تنظيم الدولة الإسلامية من أيّ أرض استخدمها ذلك التنظيم في وقت من الأوقات للمطالبة بالشرعية، لكن اتخاذ الولايات المتحدة إجراءات حركية للدفاع عن الأكراد ضد تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي تستضيف أسلحة نووية أميركية، أمر غير وارد.
ويوضح هول أنه على الرغم من أننا يمكن أن نكون ممتنين للمساعدة الكردية ضد داعش، يجدر بنا أن نعترف بأنه في حين أن المصالح تتلاءم في بعض الأحيان، إلا أنها تتباعد أيضا، وليس هناك سبب للاعتقاد بأن الأكراد، أو أي من غير الأميركيين، يحق لهم الحصول على الحماية الدائمة التي يوفرها الجيش الأميركي.
ويرى أن المهمة المناهضة لداعش هي في الواقع تمثل تناقضا كبيرا مع المهمة الحالية في سوريا. وكان حرمان ذلك التنظيم من الأراضي التي يمكنه العمل منها، هو مهمة محدودة وقابلة للتحقيق، وكانت القوة العسكرية الأداة المناسبة لها. ومع ذلك، تتطلب حماية أكراد سوريا إمدادات مستمرة من الموارد والقوى البشرية ولا تطرح شروطا للانتصار يمكن الوفاء بها بما يبرر انسحاب الولايات المتحدة.
وليس من المفاجئ أنه بعد سقوط خلافة داعش في كل من سوريا والعراق، كانت المهمة الأميركية في سوريا بلا هدف، الأمر الذي ينبغي أن يثير تساؤلات مهمة للغاية حول سبب مطالبة الجنود الأميركيين، حتى يومنا هذا، بمراقبة الطائرات دون طيار والصواريخ والقوافل الروسية في حين يتظاهر المسؤولون في واشنطن بأن نتيجة الحرب الأهلية في سوريا يمكن أن تضعف أمن الولايات المتحدة.
ويقول المحلل الأميركي إن سوريا بصراحة ليست جائزة تطمع بها الولايات المتحدة. ولم تعد فلول داعش المتناثرة هي التهديد الذي شكلته في ذروة تنظيمها، وهذا التنظيم لديه الكثير من الأعداء الموجودين في المنطقة، بما في ذلك إيران وروسيا والحكومة السورية. وفي الوقت نفسه تميل دفة الحرب الأهلية، منذ بعض الوقت، لصالح الرئيس السوري بشار الأسد، ويعترف جيران دمشق بذلك بشكل متزايد، مع تسارع وتيرة الجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات في الآونة الأخيرة.
الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية تراقب تحركات الولايات المتحدة في المنطقة مرجحين أن تقدم على انسحاب فجئي من سوريا شبيه بانسحابها من أفغانستان
أما بالنسبة إلى الأكراد فإن إعلان الولايات المتحدة عن الانسحاب من سوريا في عام 2019 دفع الأكراد إلى عقد اتفاق سريع مع الحكومة السورية من شأنه أن يوفر لهم الحماية. ويقول الباحث إن ما يمكننا تعلمه من هذا هو أن الأكراد يهتمون بشكل مفهوم بالبقاء على قيد الحياة والحصول على الحماية أكثر من اهتمامهم بمن يقدم تلك الحماية. ومن الممكن أن تشجع الولايات المتحدة القادة الأكراد على اتخاذ ترتيبات للحماية دون توقع أن تبقى القوات الأميركية إلى الأبد. وفي حال سعى الأكراد مرة أخرى للتوصل إلى اتفاق مع دمشق، فإن دعم روسيا للحكومة السورية يوفر رادعا قويا يمنع تركيا من اتخاذ تدابير مفرطة ضد أكراد سوريا.
وتكشف نظرة عامة خاطفة عن علاقة الولايات المتحدة مع الأكراد عن تاريخ من التخلي من جانب الولايات المتحدة. ومن المؤسف أن الوعود الأميركية الأخيرة للأكراد يمكن أن تسهم في هذا النمط. وكما اضطرت الولايات المتحدة في نهاية المطاف إلى الاعتراف بأن الانتشار إلى أجل غير مسمى في أفغانستان أمر غير مستدام، سيصبح من الأصعب إنكار أن الشيء نفسه يمكن أن يقال عن سوريا.
ويقول هول إن الحقيقة الرصينة هي أن الإبقاء حتى على نشر رمزي للقوات الأميركية في سوريا يعرض حياة الأميركيين للخطر، وينذر بجر الولايات المتحدة إلى صراعات ينبغي على القادة العقلانيين السعي لتجنبها. والخيار الأفضل هو الانسحاب من سوريا، مع الاعتراف بأنه عندما تختلف المهمة عن المصالح الأمنية المشروعة، يحين وقت التراجع.
العرب