للمرة الأولى، قدمت طائرات الميغ الروسية في الأسابيع الأخيرة دعماً جوياً وثيقاً للجيش العربي السوري، عندما شنت غارات على الثوار إلى الشمال من مدينة حمص. وتابع الروس شن ضرباتهم الجوية على محافظة إدلب التي يسيطر عليها الثوار. كما شن الروس، ولأول مرة أيضاً، ضربات بصواريخ طويلة المدى، أطلقوها من سفن حربية في بحر قزوين على أهداف تابعة للثوار. وخلال هذا الأسابيع الأخيرة، شرعت الاستراتيجية الروسية بالتكشف بوضوح.
تقول وزارة الخارجية الأميركية أنها تشعر بالحيرة من دعم مصر للضربات الجوية الروسية ضد الثوار في سورية. لكن كل مجموعات الثوار التي ترتقي لتكون أي شيء عسكري في سورية، هي فعلياً من المتطرفين الذين ينتهجون خطاً متشدداً، وكانت جنرالات مصر قد نفذوا انقلاباً ضد الإخوان المسلمين في مصر نفسها في العام 2013. ولذلك، فإن هؤلاء الضباط ليسوا متعاطفين مع الإخوان المسلمين السوريين الذين أصبحوا أكثر تطرفاً ويحاولون الإطاحة بالحكومة. وبما أن العربية السعودية وحلفاءها في مجلس التعاون الخليجي يمولون النظام في مصر، كما يمولون المتشددين السلفيين في سورية أيضاً، فإنه ربما يكون هناك بعض الاحتكاك بين القاهرة والرياض حول نقطة الخلاف هذه. لكن السعوديين أرادوا من الضباط المصريين أيضاً أن يسحقوا الإخوان المسلمين، الذين ينظر إليهم السعوديون على أنهم مدفع شعبوي طليق، ولذلك يبدو الوضع معقداً للغاية. ربما أن السعوديين لا يعبأون إذا قصف الروس مجموعات الإخوان المسلمين، لكنهم قد يشعرون بالقلق إذا تم قصف السلفيين الذين يتبعون مذهب الوهابية السعودية ويدينون بالولاء للملكية.
لم يكن التدخل الروسي في سورية بسبب “داعش”، وإنما بسبب الائتلاف الذي تقوده “القاعدة” والذي يدعى “جيش الغزو”. وهو يضم “جبهة الدعم” أو “القاعدة في سورية” –التي تتبع أيمن الظواهري، مهندس هجمات 11/9– مع مجموعات سلفية متشددة أخرى مثل مجموعة “أحرار الشام”. ويرفض هذا التحالف الديمقراطية، ويريد تحويل الأقليات الدينية مثل الدروز إلى “القاعدة”، وبنتائج قابلة للتنبؤ.
وقد استولى تنظيم القاعدة وحليفاتها على محافظة إدلب الشمالية من الثوار الأكثر اعتدالاً، واستولى في الربيع الأخير على المدن الرئيسية في إدلب (العاصمة الإقليمية) وجسر الشغور، البلدة التي تشكل بوابة لمدينة اللاذقية الى الغرب.
واللاذقية ميناء رئيسي في سورية، وتشكل نوعاً من الثغر بالنسبة إليها. ثم يتجه المسار الهضمي هابطاً إلى حماة وحمص، فدمشق. وإذا استطاع تنظيم القاعده وحلفاؤه التقدم غرباً بفعالية إلى ميناء اللاذقية، فإنه سيستطيع ذبح العلويين الذين يدعمون نظام الأسد، والمسيطرون في تلك المحافظة، ثم حرمان العاصمة دمشق في الجنوب من إعادة التموين عبر الميناء. وسيكون من المرجح سقوط النظام في تلك الحالة. وكانت بلدة جسر الشغور قد سقطت بيد القاعدة والمجموعات الأخرى، بما في ذلك وحدة شيشانية من الأصوليين المتشددين، وهو الأمر الذي أقلق الروس. وكان فلاديمير بوتين قد سحق الانتفاضة الشيشانية السابقة التي قادها متشددون كانوا يسعون إلى إعلان إمارة إسلامية فيها. ولم يرد رؤية إمارة شيشانية ثانية يصبح فيها المسؤولون الشيشانيون الكبار قريبين من روسيا كما هو حالهم في اللاذقية.
لذلك، يهدف الروس إلى الإبقاء على حماة بعيدة عن أيدي الثوار الذين سيشرعون في عملية قطع العاصمة دمشق في الجنوب عن خطوط الإمداد الشمالية. ومن هنا تقوم روسيا بقصف مواقع الثوار التي تقع إلى الشمال من حماة. وبالإضافة إلى ذلك، إذا استطاع الجيش العربي السوري إلحاق الهزيمة بالمتشددين في شمال حماة، فأنه سيستطيع الاستيلاء على خان شيخون ثم الانتقال إلى إدلب التي تقع إلى الجنوب منها.
لتنظيم القاعدة مقاتلون إلى الشمال من حماة، وتوجد كذلك مجموعات من رجال حرب العصابات، أصغر حجماً وأقل راديكالية (بالرغم من أن بعضها حارب إلى جانب القاعدة في بعض الأحيان). ولا تعير موسكو الكثير اهتماماً لما إذا كان قصفها يستهدف القاعدة أو الجهاديين السلفيين المتحالفين مع القاعدة، او حتى من تصفهم واشنطن بـ”بالمعتدلين”، مع إنني أشك بأن العديد من المعتدلين الأصيلين ما يزالون في الميدان حتى الآن. وتريد روسيا أن تكسر طوق الحصار الشمالي عن حماة من جانب هؤلاء الثوار المتشددين والقاعدة وحلفائها، ثم الانتقال شمالاً باتجاه إدلب. ولذلك قدم الروس الدعم الجوي للجيش العربي السوري في هجومه المضاد، ولو أن التقارير الأولى قالت أن هذا الهجوم قد فشل في تحقيق الكثير من التقدم.
وبالمثل، تريد روسيا أن توقف تقدم تنظيم القاعدة باتجاه العلويين في اللاذقية من ناحية الشرق، ولذلك تقصف وحدات “جيش الغزو” ومخازن الأسلحة في إدلب. وإذا استطاعت موسكو تحقيق ذلك الهدف وطرد المجموعة وحلفائها من إدلب، فإن ذلك سيكون كله في خدمة المصلحة العامة، من وجهة نظر بوتين.
لا يدرك الناطقون الرسميون والساسة الأميركيون الذين يشتكون من أن روسيا لا تضرب “داعش” هذه الفكرة. فإما أنهم لا يفهمون أن وجود تنظيم القاعدة في إدلب يعني إمكانية سقوط اللاذقية، أو أنهم يكذبون وحسب. وكان وزير الدفاع الأميركي، أشتون كارتر، قد صرح مؤخراً بأن 90 % من الضربات الجوية الروسية لم تستهدف “داعش” أو “القاعدة”. ولا أعتقد أن هذا صحيح، بالنظر إلى أن روسيا تقصف بوضوح الكثير من مواقع “جبهة الدعم” و”جيش الغزو”. لكنني أعتقد على أي حال أننا إذا أعدنا صياغة السؤال بشكل مختلف، ليكون حول كم من الضربات توجهت إلى تنظيم القاعدة وحلفائه، فإننا سنجد أن أغلبية الضربات توجهت إليهم.
أود أن أبين أنني أحاول أن أحلل فقط ما يحدث في سورية. ليس لي طرف أناصره في القتال. وأنا أمقت نظام الأسد الذي يرتكب الإبادة الجماعية وينخرط في التعذيب الجماعي. لكنني أرفض بشكل مطلق دعم أي مجموعة مصطفة مع تنظيم القاعدة بقيادة أيمن الظواهري، أو التي تريد أن تكون سورية إمارة سلفية تنتهج خطا متشدداً، حيث سيشكل المسيحيون والعلويون والدروز والأكراد (سوية 40 % من السكان). بالإضافة إلى العرب السنة العلمانيين (45 % أخرى) مواطنون من الدرجة الثانية، والذين تحكمهم شرطة أخلاقية ذاتياً تحمل رشاشات.
لدي شك عميق بأن موقفي من القاعدة كخط أحمر لا يتقاسمه معي من كبار المسؤولين الأميركيين. وإذا كنت محقاً في هذا، فيجب عليهم أن يخجلوا من أنفسهم وأن يعودوا ويقرأوا عن أصول تنظيم القاعدة في سنوات الثمانينات في أفغانستان. إن لدى الجهاديين المدعومين من جانب الولايات المتحدة طريقة في ضربنا من الخلف.
الخير والشر في سورية اليوم أصبحا مفهومين مرتبطين بالسياق. ومن شأن وجود حزب البعث أو شبيحته، الشبيبة، وحكم المتدينين السنيين أن يفضي إلى المظالم. أما أن يغزو المتشددون اللاذقية العلوية أو المناطق الدرزية، فمعنى ذلك حدوث مأساة هائلة.
في نهاية المطاف، يمكن شفاء سورية فقط من خلال الديمقراطية والفصل بين الدين والدولة. ولا يتوافر النظام ولا الثوار على هذا، وليس هناك من ضمان بأنهم سيتوافرون عليه أبداً.
خوان كول
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني
صحيفة الغد