لاشك في أن قضية التجديد الديني تعد إحدى الإشكاليات التي تواجه المجتمعات الإسلامية منذ أكثر من قرن، وكان لمصر وعلمائها دور بارز في التعامل مع هذه الإشكالية. كما أن تراجع عملية التجديد خلال نصف القرن الماضي كانت بمثابة فرصة لجماعات الإسلام السياسي لكي تستحوذ على مساحة ليست بالصغيرة من المجال العام وساعد فى ذلك الضعف النسبي لدور المؤسسات الدينية.
وفي هذا السياق يناقش العدد 57 من مجلة أحوال مصرية قضية التجديد الديني. ويشير الدكتور أيمن عبد الوهاب رئيس التحرير في افتتاحية المجلة التي حملت عنوان “الفكر الإسلامي وتجديد الضرورة” إلى أن المشهد الراهن يكتنفه الكثير من التعقيدات والسلبيات التي تركت بصاماتها على الحوار والمبادرات والجهود المبذولة تجاه مسألة التجديد الديني، كما يوضح أن القضية أعمق من مجرد اختزالها في فترة زمنية معينة لأنها عملية ممتدة يجب أن تتوافر لها قوة الدفع من جانب الكثير من المؤسسات التي يأتي في مقدمتها الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية ووزارة الإعلام وجميع مكونات القوة المصرية الناعمة.
ويناقش الدكتور أحمد كريمة في دراسته التي جاءت بعنوان “التراث الإسلامي الفكري بين التجديد والتبديد: رؤية شرعية” العوامل المؤثرة في الثقافة الإسلامية وتتمثل في عاملين رئيسيين هما، عامل الثبات، ويعني أصول عقائدية وتشريعية ومعايير وقيم أخلاقية دلت عليها نصوص تشريعية مقدسة مثل القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف الذي صحت نسبته إلى سيدنا محمد – ص – باعتبارها مسلمات شرعية لا تقل قوة عن المسلمات العقلية، والعامل الثاني، هو عامل التغيير، ويتضمن نتاج اجتهادات أئمة العلم الراسخين والمرتبطة بظروف متنوعة وأوضاع متعددة ومؤثرات مختلفة. وحول أهمية التراث يشير كريمة إلى أنه مصدر غني للثقافة الإسلامية لأنه يغطي جوانب الحياة الإنسانية كلها، كما أنه لا يمثل شيئًا صامتًا في حياة الشعوب بل هو قلبها النابض ولسانها الناطق وسلاحها الحامي، ويوضح أنه ليس هناك حدود معينة لتاريخ أي تراث فكل ما خلفه المؤلف بعد حياته من نتاج فكري يعد تراثًا فكريًا.
إلى جانب ذلك، يناقش العدد رؤيتين الأولى، هي مشروعات الإصلاح والتجديد في العصر الحديث للدكتور على جمعة، والثانية إشكالية الطرح السياسي للإسلام للدكتور نصر محمد عارف. ويطرح جمعة تجارب خمسة مشروعات فكرية تشتمل على الإصلاح والتجديد ومنها مشروع عبد القادر البغداد، والثاني مشروع المرتضى الزبيدي، والثالث مشروع الشيخ حسن العطار، والرابع مشروع الإمام محمد عبده، والمشروع الخامس لعبد الرازق باشا السنهوري. ويقدم جمعة مشروعًا جديدًا يشمل على خمسة محاور هي، عودة اللغة العربية، وعودة منظومة الأخلاق والقيم، وعودة العقلية العلمية الموثقة الفارقة، وإقامة دولة المؤسسات والعدالة الناجزة، والتواؤم بين كتاب الله المنظور (الكون) وكتاب الله المسطور (القرآن) كمحور للحضارة. ويطرح الدكتور عارف خمسة إشكاليات تتعلق بالطرح السياسي للإسلام وتتمثل في، الانفصال عن الواقع، وظهور جماعات الإسلام السياسي التي أدت إلى ارتباك العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتحول المجتمع إلى النموذج الحداثي الغربي وعلمنة الحلول الإسلامية، ومقايضة السلطة بمنظومة القيم الإسلامية، واختزال الإسلام في السياسة والحكم. وللخروج من هذه الحالة التي صنعتها الجماعات السياسية المنتسبة للإسلام يقترح عارف بضرورة إجراء عملية تغيير فكري وثقافي يكون قوامها الإصلاح التعليمي والدعوي والإعلامي.
ويتناول ملف العدد عدة موضوعات، حيث يناقش الدكتور أحمد موسى بدوى الباحث في علم الاجتماع السياسي، العلاقة بين التدين والمجتمع المصري، ويحدد خمسة أبعاد لظاهرة التدين، البعد الأول يتمثل في الاعتقاد بوصفه مظهرًا من مظاهر التدين، والثاني يتعلق بالبعد المعرفي، والثالث يرتبط بالممارسات الشعائرية ومدى اكتسابها أرضية في الحس المشترك الديني في مصر، والرابع، هو بعد التجربة ويتمثل في تأسيس شبكة للخدمات كالجمعيات السلفية، أو شبكة اجتماعية غير رسمية كتنظيم جماعة الإخوان، أما البعد الخامس هو الانتماء ويمثل أحد الأبعاد الاجتماعية لظاهرة التدين. وتعرض الدكتورة آمنة نصير أستاذ العقدية والفلسفة بجامعة الأزهر، دور المرأة في التجديد الديني سواء من خلال دورها في سياسة الدولة وبسط نفوذها في إدارتها أو من خلال دورها المجتمعي ومواصلة نشاطها السياسي ومشاركتها في الأعمال الحربية ودورها في رواية الحديث، إضافة لما قدمته في مجال الفقه والوعظ والإرشاد والأدب والشعر.
ويميّز المستشار عصمت العيادي رئيس محكمة الاستئناف، بين مفهومي الدولة الدينية والمدنية، فيقصد بالأول الدولة التي تقوم على أساس من العقيدة الدينية ويكون مصدر سلطة الحاكم فيها هو التفويض الإلهي. أما الثاني فتقوم فيها الدولة على أسسس المواطنة والمساواة وتكفل حرية الفكر والإبداع وممارسة الشعائر لمواطنيها. كما يحلل العيادي دساتير الدولة المصرية منذ وضع دستور 1923 ثم دستور 1930، إضافة إلى الإعلانات الدستورية في مرحلة يوليو 1923 وما تلاها من دستور 1956 و1958 ثم دستور مصر الدائم لعام 1971 وتعديلاته والإعلانات الدستورية في مرحلة ما بعد 25 يناير وصولاً إلى دستور 2014، من حيث تأكيدها على مدنية الدولة المصرية والتي تمثلت مظاهرها في النص على المواطنة والمساواة واحترام حقوق الإنسان.
إضافة إلى ذلك، يناقش الدكتور كمال حبيب الباحث في الشئون الإسلامية، النسق المعرفي الذي تنطلق منه الجماعات المتشددة والتي تتمثل في احتكارها للحق. وعلى سبيل المثال يشير إلى أن جماعة التفكير والهجرة التي تأسست في مطلع سبعينات القرن الماضي تقوم على فكرة أن الأمة كافرة ما عدا الأعضاء الذين ينتمون لها. أما بالنسبة لتجديد خطاب هذه الجماعات، فيحدد حبيب عدة نقاط من أهمها، مناقشة الأسس الفكرية لها باعتبارها عنصر انشقاق داخل هذه الأمة، وأن يكون التجديد والنهضة لصالح الأمة وليس في مواجهتها، والتأكيد على أن الإسلام لم يحدد نظامًا بعينه للحكم وإنما وضع قواعد ضابطة وحاكمة للنظام السياسي.
ويعرض الأستاذ أحمد بان الباحث في شئون الحركات الإسلامية، ثلاثة أنماط للتدين في مصر، الأول هو النمط الصوفي الذي ينصرف عن الدنيا لحساب الانشغال بإصلاح النفس وتزكيتها، والثاني هو النمط السلفي الذي يشارك المتصوفة في اختيار طقوس خاصة، مشيرًا إلى أن التدين لدى هذا النمط يأخذ نوعين أحدهما يعتقد بأن تقمص ما كان عليه السلف الصالح سيُغير الأوضاع، والأخر هو الذي يحمل السلاح في مواجهة الأنظمة للتغيير وتتمثل في السلفية الجهادية، أما النمط الثالث، فتمثله جماعة الإخوان التي تجعل من واجبات إيمان الفرد الاشتغال بالسياسة.
ويقترح الدكتور يسري العزباوي مدير تحرير المجلة، خطة لتجديد الخطاب الديني قوامها سبعة ركائز، أولها، امتلاك الدولة لخطة قومية متكاملة يشارك في تنفيذها جميع مؤسسات الدولة، وثانيها، إصلاح مؤسسة الأزهر والارتقاء بنوعية التعليم لدى خريجيه، وثالثها بلورة رؤية واضحة للإعلام الرسمي والخاص تجاه قضية تجديد الخطاب الديني، ورابعها إشراك مؤسسات المشاركة مثل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في عملية التوعية بضرورات الإصلاح والتجديد، وخامسها التعاون مع مؤسسات الفكر ومراكز الأبحاث لتطوير تجديد الخطاب الديني، وسادسها تقنين وضع المساجد وتأهيل الدعاه، وسابعها فتح باب الحوار مع الجماعات السلفية والصوفية لمواجهة الأفكار المتطرفة.
وتقدم الدكتورة ماجدة صالح أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، مجموعة من القضايا في إطار دور الأزهر تجاه تجديد الخطاب الديني والتي تتمثل في الحرص على تبيان أحكام الإسلام إزاء القضايا المهمة في سلم الأولويات، والسعي لحفظ الأمن الثقافي للمجتمع، إضافة إلى تبني الأزهر موقفًا معتدلًا تجاه مشكلة الاستقطاب الفكري. وفي مقالته حول دور الإعلام في تجديد الخطاب الديني، يقترح الدكتور شريف اللبان أستاذ الصحافة بجامعة القاهرة، مجموعة من الآليات التي يجب تبنيها لنشر خطاب عالمي مستنير ومنها، إنشاء قناة فضائية دينية إسلامية تعكس قيم الإسلام الوسطي المعتدل، وإقناع الدول الغربية عبر خطاب إسلامي مستنير بعدم مساندة جماعات الإسلام السياسي لما يمثله من دعم للإرهاب. ويعرض الأستاذ إيهاب نافع الباحث بمركز الجمهورية للدراسات السياسية، إشكالية تجديد الخطاب الديني بين الأزهر والمثقفين، والتي شهدت مرحلة من الصراع بينهما خلال القرن الماضي، إضافة إلى مظاهر التعاون التي تبلورت عقب ثورتي 25 يناير و30 يونيو، كما يناقش موقف الدولة تجاه الجانبين.
ويناقش الدكتور عبده إبراهيم الباحث في العلوم السياسية، أسس ومفهوم التجديد عند الشيخ جمال ادين الأفغاني والإمام محمد عبده، ويقدم قراءة لرؤية الأستاذ والإمام في المجال السياسي والاجتماعي والديني، كما يطرح مجموعة من المداخل الحاكمة لتجديد الخطاب الديني ومنها، فك الارتباط بين الخطاب الديني والمؤسسات الدينية والسياسية، والإحاطة بأن ما يحتاج إلى تجديد ليس فقط الخطاب الديني ولكن جميع الخطابات في كافة المجالات، والتأكيد على أن المناخ السائد من هيمنة وسائل الإعلام على مقدرات الحياة وصياغة أنماط وقوالب معينة تدفع المجتمع إلى مسايرتها.
ويناقش الدكتور إبراهيم منشاوي مدرس العلوم السياسة المساعد بجامعة القاهرة، مصادر تجديد الفكر الإسلامي عند الشيخ محمد متولي الشعراوي، والتي تمثلت في اتباع الشيخ لمصدرين هما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فضلاً عن حرصه على الدفاع عن ثوابت الدين وأصوله. كما يعرض رؤية الشيخ تجاه قضية إصلاح التعليم الأزهري، والتي تقوم على التطوير والتجديد ومواجهة الخلل في المنهج العلمي والتطبيق، إضافة إلى حرص الشيخ على التجديد في مادة الأدب والنقد الأدبي وتياراته ومدراسه، وتأكيده على الإعداد التربوي لمدرسي الأزهر الشريف.
حازم عمر
مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية