قبل بضعة أشهر أطل علينا في نفْخة إيرانية والد زوجة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إمام الجمعة في مدينة مشهد المدعو الملا علم الهدى بخطبةٌ قال فيها كلاما عن حقيقة الميليشيات العراقية واللبنانية والسورية واليمنية والفلسطينية، ووظائفها بصراحة وبالقلم العريض.
قال حرفيا “إيران اليوم ليست محدودة بالحدود الجغرافية، فاليوم الحشد الشعبي إيران، حزب الله في لبنان إيران، أنصار الله في اليمن إيران، الجبهة الوطنية في سوريا إيران، الجهاد الإسلامي وحماس في فلسطين إيران، وطائرات الدرون اليمنية التي تسببت بأضرار كهذه للسعوديين أليست إيران هناك؟ تقولون إن طائرات الدرون أتت من الشمال وليس من الجنوب، شمال أو جنوب ما الفرق؟ إيران هي الاثنان”.
وبعده، في الخامس والعشرين من سبتمبر الماضي خرج علينا بنفس اللغة المنتفخة النضّاحة بالتعالي والغطرسة قائدُ مقر خاتم الأنبياء التابع للحرس الثوري اللواء غلام علي رشيد بتصريح مشابه قال فيه “إن القائد السابق لفيلق القدس قاسم سليماني كان أبلغ قادة القوات المسلحة الإيرانية قبل اغتياله بثلاثة أشهر بأنه أنشأ محورا من ستّة جيوش”.
وعدَّدَها قائلا إنها “حزب الله في لبنان، وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) والجهاد الإسلامي في فلسطين، وقوات أنصار الله (الحوثيون) في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، والجيش السوري”. إنها “القوة الرادعة أمام الاعتداءات على إيران”.
وبالتدقيق في هذه التصريحات تبرز أمامنا ثلاثة أمور أعمت العنصرية والعنجهية أصحابَ العمائم الإيرانية عن إدراكها، الأول أن أعداداً كبيرة من المجندين في هذه “الجيوش” دفعت بهم الحاجة القاهرة إلى حمل سلاحها، وهم يعلمون بأنه غير مخصص للدفاع عن طائفتهم ولا عن التشيع ولا عن دولة الإمام الغائب، كما يزعم قادتُها المزورون، وإنما هو لقتل كل من يعارض الاحتلال الإيراني، حتى لو كان من أفضل الشيعة ومن أكثرهم وفاءً لمذهب التشيع، وهم في أول فرصة تتيح لهم الحصول على لقمة عيش حلال بدون قتل واغتصاب وظلم وتهجير سوف لن يتخلّوا عن ولاية الفقيه فقط، بل قد يحملون السلاح ضدها وضد عملائها وجواسيسها المطلوبين للعدالة.
والثاني أن متغيرات خطيرة شهدتها المنطقة والعالم ليست في صالح النظام ومشروعه التوسعي، بل هي تُضيّق الخناق عليه وعلى الشعب الإيراني أيضا، ولكن المعممين في طهران لا يرونها ولا يدركون خطورتها، وهي تأتي متزامنة مع تبدلات جوهرية في مزاج الشعوب التي تجرعت من ظلم النظام وميليشياته الكثير الذي لا يحتمل.
والمعنى الواجب فهمُه لهذه المتغيرات هو أن عصر الغزو والاحتلال أصبح من الممنوعات، وصار الحالمون بإعادة إحياء عظامه وهي رميم أعداء للحق والحرية والعدالة وحقوق الإنسان، ومقاومتُهم وحربُهم حلال.
فما حدث ويحدث في العراق منذ أكتوبر 2019 وإلى اليوم، خصوصا ما فعلته الانتخابات الأخيرة بالولائيين، بالإضافة إلى مواقف مقتدى الصدر الجديدة التي وإن لم نثق بصدق وطنيتها وعروبتها، تساهم وتُسرّع وتضاعف النقمة الشيعية الشعبية على الوجود الإيراني، والصفعاتُ التي يتلقاها حزب الله من جماهير الشعب اللبناني ومن ضربات الإسرائيليين خصوصا في سوريا، والمآزقُ التي تحاصر الحوثيين، والوضعُ المزري لميليشيات إيران في سوريا، كلها دلائل تؤكد أن هذه “الجيوش الستة” التي يتباهى بها المعممون ليست أكثر من كيانات هشة لن تقوى على تغيير مصيرها الأسود المنتظر والمحتوم.
أما الثالث فهو ارتفاع مناسيب النقمة الشعبية الداخلية على النظام، ليس بسبب ضياع الأموال الطائلة التي بعثرها النظام على الحروب والمؤامرات، وعلى تأسيس الميليشيات وتمويلها وتسليحها فقط، بل بسبب تفاقم أزمة البطالة، ونقص فرص العمل، وتدني مستوى المعيشة بفعل فشل السياسات الحكومية وتفشي فايروس كورونا والعقوبات الأميركية الخانقة.
وأظهرت بيانات صادرة عن مركز الإحصاء الإيراني أن عدد العاطلين زاد 2 مليون خلال الربع الأول من السنة الفارسية الماضية.
وكشف جواد حسن زادة رئيس المركز الإحصائي الإيراني في تقرير جديد له أن “العديد من الشركات علقت أنشطتها كليا وجزئيا خلال الأشهر الأخيرة”.
وخفَّضت العقوبات الأميركية صادرات النفط الخام الإيرانية بشكل غير مسبوق، وفرضت تحديات خطيرة على قطاعات الاقتصاد الرئيسية الأخرى.
وقد أعلن وزير النفط الإيراني جواد أوجي في اجتماع عقدته لجنة تنسيق الموازنة العامة أن بلاده بحاجة إلى 160 مليار دولار لإحياء مشاريع النفط والغاز المتوقفة بسبب العقوبات. ومن نتائج هذه العقوبات الانكماش الاقتصادي الشديد مع التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية الرئيسية.
وفي مسعى لتعويض الخسائر يضطر النظام إلى التضييق على المواطنين بالمزيد من الضرائب والرسوم والغرامات.
كما أن إصرار النظام على امتلاك سلاح نووي ضاعف العزلة المفروضة عليه وعلى الشعب الإيراني.
أما إذا اضطرت الولايات المتحدة أو إسرائيل إلى استخدام القوة لتدمير المفاعلات، فإن ذلك سيعني للشعب الإيراني أن الثروات التي تكلفها المشروع قد أصبحت رمادا، وأن أعباء العقوبات التي تحملها المواطن لسنوات كانت عبثا لا طائل وراءه، ولا يمكن مسامحة النظام عليه. فهل، بعد هذا كله، ما زالت إيران موجودة في كل مكان؟
العرب