أثار قرار توحيد خطبة صلاة الجمعة في مصر آراء ومواقف متباينة، حيث دعم الكثيرون قرار وزارة الأوقاف انطلاقا من فكرة أن أئمة المساجد لا يمتلكون رصيدا معرفيا كبيرا ولا يمكنهم تمرير آرائهم وقناعاتهم دون حسيب أو رقيب، في حين يحذّر الرافضون لهذا القرار من أن اعتماد موضوعات موحدة دون دراسة الفروقات الفكرية والاجتماعية من منطقة إلى أخرى سيخلق للجماعات المتطرفة بيئة خصبة لاستقطاب المصريين.
القاهرة – أظهر الحكم القضائي الذي صدر في مصر مؤخرا ويساند موقف وزارة الأوقاف في تعميم الخطبة الموحدة على كل المساجد أيام الجمعة أن الاجتهاد على المنابر صار من الأمور المستبعدة كليّا في ظل تمسك المؤسسة الدينية بفرض خطبة مكتوبة على الأئمة، لا يخرجون عن نصها وإلا تعرض من يخالفها للاستبعاد من العمل الدعوي.
ما يلفت الانتباه أن القضية التي نظرت فيها محكمة القضاء الإداري لإلغاء الخطبة الموحدة رفعها مواطنون عاديون رأوا في هذا الأسلوب تكريسا للجمود الفكري وقتلا للاجتهاد والتنوع، لأن أغلب الخطب التي تعممها الأوقاف على شيوخ المساجد تتناقض مع متطلبات الناس واحتياجاتهم اليومية بشأن القضايا والموضوعات الدينية الملحة.
ما زالت أزمة الخطبة الموحدة مستمرة لأنها لا تناسب كل الفئات باختلاف طباعها وعاداتها وتقاليدها وثقافاتها، فالذي يقوله الإمام على منبر في مسجد بالقاهرة يردده زميله داخل المسجد الواقع في منطقة نائية أو حدودية أو ريفية، وهو ما يجعل الناس يتذمرون ويمتعضون ويتعاملون مع الخطبة باعتبارها منفصلة عن الواقع الاجتماعي.
جاء الحكم القضائي ليغلق النوافذ أمام إمكانية فرض التنوع في الآراء ومناقشة القضايا الدينية الملحة التي يحتاجها الناس، وفق ظروفهم وحياتهم وبيئاتهم. وترى وزارة الأوقاف أن هذه الخطوة تساعدها في القضاء على التطرف الفكري وتقطع الطرق أمام بث السموم وتبعد الدين عن التوظيف السياسي على المنابر.
وقالت المحكمة إن التحديات المعاصرة كشفت أن التشدد والإرهاب كانا نتيجة الانحراف عن مفاهيم الدين الصحيح والخلل الذي أصاب مسار الفكر الديني مما تتعين معه على الدول الإسلامية والعربية محاربة الفكر المتطرف لدعاة الغلو الذين يستخدمون الشباب وقودا لفكرهم المنحرف بضبط الخطاب الدعوي.
وبررت حكمها بأن الواقع المصري كشف عقب ثورتي الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونيو 2013 أن بعض خطباء المساجد يوم الجمعة استخدموا المنابر لتحقيق أهداف سياسية، ووظفوا موضوع الخطبة لتحقيق أغراض حزبية وأخرى تحريضية وشق الصف عبر المنابر (في إشارة إلى جماعة الإخوان والسلفيين) بما يخدع البسطاء، على الرغم من قدسية المسجد ومنع إقحام النواحي الدينية في السياسة.
ضرورة مجتمعية
عبدالغني هندي: الجماعات المتطرفة قد تستغل جمود الخطبة للنشاط في المجتمع
أكد عبدالغني هندي عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر أن تطبيق الخطبة الموحدة عقب ثورة الثلاثين من يونيو وإسقاط حكم الإخوان كانا ضروريّيْن لأن المجتمع وقتها دخل مرحلة انقسام غير مسبوقة، وكانت المعالجة الدعوية في المساجد سياسية بامتياز، ويفترض بزوال هذه الحقبة أن يفسح المجال للخطيب بضوابط عامة ومحظورات لا يقترب منها لتحقيق المزيد من الانضباط على المنبر.
وأضاف لـ”العرب” أنه صار من الواجب إعادة النظر في الخطاب الدعوي الموحد بالمساجد، لأن الخطبة الموحدة تعوّد الإمام على الاتكالية ولا تدفعه لزيادة معارفه بالمجتمع ولا تستطيع وزارة الأوقاف اختيار موضوعات جديدة لاضطرارها إلى التكرار، وهذه كارثة كبرى تستخدمها الجماعات المتطرفة لتكون بالنسبة إليها أرضية خصبة للنشاط في المجتمع مرة أخرى.
ورغم إقرار القضاء بأن الجمعة شرعت لتكون جرعات إيمانية أسبوعية تعالج قضايا وهموم الناس وتعطي للمسلم طوق النجاة من الوقوع في المعاصي والآثام، لكنه قضى بأحقية صانع القرار في توحيد موضوع الخطبة لمواجهة المخاطر وترسيخ قيم المواطنة وليس من حق الخطيب كمؤتمن أن يوجه الناس إلى ما يشتهي أو يرغب فيه.
ويرى مؤيدون أنه ليس من دور الخطيب في المسجد أن يملي على الناس قناعاته الشخصية في المجالات المختلفة فتشتد الخطورة من فوق منابر الجمعة ما يوهم عامة الناس بأن هذا هو الحق المبين، لأن ذلك التوجه وهذه التصرفات تشدد من نوع آخر بفرض وجهة النظر الواحدة كرأي مقدس.
ما زالت المساجد في مصر، رغم امتعاض الناس من إحكام قبضة الأمن والأوقاف عليها، من أهم الساحات التي يمكن من خلالها التأثير على أفكار المواطنين وتوجهاتهم الفكرية والحياتية والسيطرة على علاقاتهم بالآخرين، وإحدى أدوات الحكومة في تشكيل الرأي العام في المناطق الريفية والشعبية لارتباط الأغلبية بالتعاليم الدينية التي يتم نشرها في المساجد.
أزمة المؤسسة الدينية العميقة في مصر تكمن في أنها تعاملت مع إنصاف القضاء لها في شأن فرضية الخطبة الموحدة باعتبارها تسير على الطريق الصحيح في التعامل مع الخطاب الدعوي، ورأت أن الحكم بمثابة شهادة تقدير لها على نجاحها في إقصاء المتطرفين والمتشددين بعيدا عن منابر المساجد دون إدراك لخطورة الاستمرار على نفس النهج ودون تطوير يرضي الناس.
ويؤيد الكثير من الرافضين لمنح الحرية المطلقة للخطيب وإمام المسجد في طرح وجهات نظره على الناس، تدخل المؤسسة الدينية في تحديد موضوع خطبة الجمعة، شريطة أن يكون فيها الحد الأدنى من التنوع والتناغم مع متطلبات الناس الحياتية والمجتمعية، بعيدا عن انتقاء موضوعات روتينية عقيمة تثير احتقان رواد المساجد وتجعلهم ينفرون من خطابها الدعوي.
الهروب إلى الخلف
Thumbnail
قال عماد السيد، وهو معلم مصري يعيش في إحدى قرى ريف محافظة دمياط شمال القاهرة، إن ابتعاد خطبة الجمعة عن صميم احتياجات الناس من الخطاب الدعوي قد يدفع الكثير منهم للهروب إلى الخلف والعودة إلى شيوخ السلفية الذين يجيدون التسلل إلى الشريحة التي تبغض الخطبة الرسمية بحكم أنها لا تتناسب كليا مع تطلعات رواد المساجد ولا تجيب عن أسئلتهم.
وأوضح لـ”العرب” أن إطلاق العنان لأئمة المساجد مرفوض، فأغلبهم يحصلون على معلوماتهم من كتب التراث القديمة التي تجاوزها الزمن وفي نفس الوقت ليس منطقيا أن يكون البديل تعميم خطبة جامدة بعيدة عن الواقع، تتحدث عن نواح اقتصادية وأحيانا تتطرق إلى أمور سياسية وتنموية، لأن ذلك بعيد عن دور الخطيب.
وحسب فحوى الكثير من خطب يوم الجمعة التي تنشرها وزارة الأوقاف في وسائل الإعلام كنوع من زيادة معرفة الناس بمضامينها، نادرا ما تتطرق إلى قضايا اجتماعية ملحة وشائكة لزيادة التثقيف بأمور حياتهم والتطرق إلى موضوعات مثل الختان والطلاق والعلاقة الزوجية وتربية الأبناء واحترام المرأة والميراث وحرية العقيدة وغيرها.
الخطبة الموحدة كفيلة بالكشف عن المتناغمين فكريا مع التيارات المتطرفة خاصة إذا تعمدوا الخروج عن النص
وقد تكون الخطبة مرتبطة غالبا بقضية ذات أبعاد اجتماعية لها جذور سياسية، مثل الحديث عن ضرورات دعم التنمية، ومساندة الدولة في حربها ضد الإرهاب، وتجييش الرأي العام خلف صانع القرار، وكلها قضايا يفترض ألا تتم مناقشتها على المنابر لأنها تتماسّ مع السياسة من نواح مختلفة، في حين أن الخطبة الموحدة فكرة وُلدت بالأساس لتقضي على السياسة في المساجد.
ويعتقد مراقبون أن ضبط خطبة الجمعة لا يتعارض مع تجديد الخطاب الدعوي ولا يقتل الاجتهاد، ويتطلب من صانع القرار المسؤول عن إدارة وتنظيم المساجد ألا يفرض على الناس سماع ما تريد الحكومة قوله لهم، بل يتم انتقاء موضوعات عصرية ومناقشة قضايا تهم الشريحة الأكبر من الناس لمنع لجوئهم إلى استفتاء المتشددين حولها.
ويشير هؤلاء إلى أن الخطبة الموحدة يمكن أن تقوم بدور فعال في نشر وسطية الإسلام من خلال ضبط السيولة التي تحدث في المساجد عبر فصائل دينية بعينها، كما أنها كفيلة بالكشف عن المتناغمين فكريا مع التيارات المتطرفة، خاصة إذا تعمدوا الخروج عن النص وإلقاء خطب بقناعات ذاتية، ما يتيح لوزارة الأوقاف إبعاد هؤلاء بعد الكشف عن ميولهم المتشددة.
يكاد لا يمر يوم جمعة في مصر إلا وتعلن وزارة الأوقاف أنها قررت إبعاد إمام مسجد عن العمل الدعوي لمخالفته الخطبة الموحدة والخوض في قضية مجتمعية جدلية باختيار شخصي منه بشكل يتناقض مع التصورات التي يتم تطبيقها في المساجد، وهي غير مسموح بالتمرد عليها.
أشار منير أديب الباحث والمتخصص في شؤون الجماعات المتطرفة إلى أن الجمود الذي يصاحب بعض موضوعات خطبة الجمعة يصب في صالح العناصر المتطرفة فكريا، وهذا ما يجب أن تنتبه إليه المؤسسة الدينية، ويجعلها مطالبة بانتقاء موضوعات تتناسب مع البيئة بتنوعها الفكري والثقافي وتتلاءم مع خصوصية كل منطقة.
وذكر في تصريح لـ”العرب” أن الكثير من الخطباء لا يستطيعون التحكم في كلامهم ونبرتهم على المنبر سواء بالإطالة أو الخروج عن النص والسقوط في ورطة الخوض في قضايا داخلية وخارجية، ما يتطلب أن يكون موضوع الخطبة نفسه مقنعا للإمام قبل الجمهور، فإذا كان مجرد قارئ لما يُملى عليه دون اقتناع سوف يضيع الغرض، وهو تثقيف الناس دينيا بخطاب دعوي وسطي عقلاني يناسب روح العصر.
وإذا كانت الشريحة المتدينة بالفطرة ترى في الخطبة الموحدة تأميما للمساجد فإن وزارة الأوقاف عليها معالجة هذه النظرة السلبية بالعمل على تطوير أداء الدعاة والأئمة والخطباء بما يتلاءم مع متطلبات العصر، لأن محاربة التطرف الفكري ليس بحصار مضمون الخطبة، بل بتحسين لغة الخطاب ومثالية الطريقة التي يتم بها طرح القضية على الجمهور.
مهما حاولت وزارة الأوقاف ضبط الخطاب الدعوي بالتحكم في مضمون الخطبة، دون إقصاء الأئمة والخطباء المتشددين ضمن عناصرها، لن تنجح في المهمة بشكل كامل، لأن العبرة ليست في الدقائق التي يقضيها الخطيب على المنبر ويلقي على مسامع الناس فحوى الخطبة لكن في كونه يتعامل بعدها مع الجمهور بعقليته المتطرفة التي يخفيها عن المؤسسة وهو على المنبر.
وتؤشر التصريحات الحادة التي يطلقها وزير الأوقاف المصري مختار جمعة من وقت إلى آخر، بعدم السماح لصعود أي شخص متطرف على منبر المسجد، على أن هناك طوابير من المتشددين تتخفى في عباءة الإمام الملتزم بالخطبة، لكنها تمارس التشدد بعيدا عن أعين المؤسسة الدينية، وهؤلاء ما زالوا معضلة كبرى في سبيل تحرير المساجد المصرية والمجتمع من العقليات المتحجرة.
وعادة ما تكون النبرة المعارضة للخطبة الموحدة في المناطق المعروف عنها التمركز السلفي والإسلامي على غرار القرى والنجوع والمناطق الشعبية والحدودية، باعتبار أن هذه العناصر اعتادت تقديم نفسها بديلا عن دعاة الحكومة أصحاب لغة الخطاب الرسمي على المنابر الذين يقولون ما يُملى عليهم ولو كانوا على غير قناعة بمضمونه.
ويسيطر السلفيون على الكثير من المساجد الصغيرة والزوايا التي لا تخضع لوزارة الأوقاف، وتكون مكتظة بالمصلين في أيام الجمعة ويفترش الناس الشوارع حولها بشكل يستدعي الحيرة والدهشة، وإذا سألت أيّا من روادها عن السبب يبرر ذلك بأن الخطيب يتحدث بحرية ويختار موضوعا يهم الناس بعيدا عن الورقة التي يقرأ منها الأئمة التابعون لوزارة الأوقاف، وفي النهاية يكون إمام هذا المنبر من ذوي اللحى الطويلة والعمامة البيضاء، أي من المنتمين إلى التيار السلفي صراحة أو ضمنيا.
وتفرض هذه المخاوف على المؤسسة الدينية ألا تتعامل مع تكريس القضاء للخطبة المكتوبة كانتصار سياسي وقانوني لها لأن تناقض المنابر مع احتياجات الشارع يقود إلى نتائج عكسية، فالعبرة ليست في إرضاء السلطة بتمرير مضامين للخطب ذات أبعاد اقتصادية وسياسية وتنموية، وإنما هي في استمرار التعامل مع المساجد كأداة لتشكيل الوعي المجتمعي قبل استبدالها بمنابر التشدد.
العرب