حرصت الصين، منذ بدء الانتفاضة السورية، على النأي بالنفس عن الانغماس المباشر في تداعيات الوضع، وبدت أميل إلى حلول داخلية سلمية، مع البقاء، في الوقت نفسه، ضمن الموقف الروسي الذي يستند إلى مناوأة تطلعات السوريين، باسم مناوأة أميركا والغرب. وقد وقفت بكين، طوال السنوات الأربع الماضية، إلى جانب موسكو في مجلس الأمن في رفض أي قرارات تكبل النظام في دمشق، أو تحمله المسؤولية عن الكارثة التي أحاقت، منذ البدء، بالسوريين. أما خارج مداولات مجلس الأمن، وبعيداً عن قراراته، فقد اتبعت بكين سياسة انفتاح مبدئي على القوى السورية المعارضة، وقد استقبلت، في وقت مبكر من الأزمة، وفداً من معارضة هيئة التنسيق، ضم، بين أعضائه، عبد العزيز الخير الذي اختطف لدى عودته إلى دمشق يوم 20 سبتمبر/أيلول 2011 مع اثنين من زملائه، إياس عياش وماهر طحان، وما زال الثلاثة رهن الاعتقال. واستقبلت بكين، بعدئذ، وفداً من المجلس الوطني، برئاسة برهان غليون، ووفداً من الائتلاف الوطني، برئاسة أحمد الجربا. وفي هذه اللقاءات، شددت على الحاجة إلى التواصل مع المكونات السورية المختلفة، وكذلك الحاجة إلى حل سياسي.
وبطبيعة الحال، تواصلت، في تلك الغضون، علاقة بكين مع دمشق التي سبق أن زارها السفير الصيني السابق فيها، لي هواكينغ، بهدف تشجيع الحوار الداخلي، وزار المنطقة أيضاً مساعد وزير الخارجية، زهانغ مينغ، وشملت الزيارة دمشق، وكانت الأزمة السورية في قلب المباحثات. وأيدت بكين توصيات “جنيف 1″، ودعت دائما الحكومة السورية وقوات المعارضة إلى وقف إطلاق النار، كما أيدت تحركات الأمم المتحدة وجهود ممثليها، ابتداء من المبعوث كوفي أنان.
مع التدخل الروسي، أخيراً، في سورية، وانغماس موسكو في الحرب على المعارضة، بدأ تسريب أخبار من إيران وحزب الله عن نية صينية للاصطفاف مع موسكو في حربها على الداخل السوري، دعما للنظام. وقد بث إعلام حزب الله أنباء عن بوارج صينية في البحر المتوسط، بهدف الانضمام إلى الغزو الروسي. وقد بدا واضحاً أنه قُصد من هذه التسريبات استدراج بكين، وتزيين المحور الإيراني المتحالف مع موسكو التدخل عليها.
وصرحت، الأربعاء الماضي 14 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ناطقة باسم وزارة الخارجية
الصينية، هوا تشون ينغ، ردا على سؤال حول ما إذا كانت قوات صينية تعتزم التدخل، أنه لا توجد خطط من هذا القبيل على حد علمها. وكانت أنباء وتقارير شتى، مصدرها في الغالب، الآلة الإعلامية الإيرانية تتداول هذا الأمر، وتنقل عنها وسائل إعلام مختلفة، بما فيها وسائل إعلام صينية.
وواقع الأمر أن العلاقات الروسية الصينية وثيقة، وبين البلدين معاهدة تعاون وصداقة، وينخرطان معاً في تكتلات، منها تكتل دول البريكس ومنظمة تعاون شنغهاي، ويقوم البلدان بمناورات عسكرية مشتركة. وهما يتفقان على عالم متعدد الأقطاب، وهي التسمية التي تسوّغ مد نفوذ القوى الكبرى، وهو ما يجعل هذه البلدان في حالة تنافس. وبالنسبة للصين وروسيا، ثمة إرث من التنافس العدائي والشكوك العميقة المتبادلة الذي ساد بينهما نحو أربعة عقود. وهكذا، فإنه إلى جانب التلاقي مع موسكو على الإطار العام لحل المسألة السورية، فإن بكين أكثر تحفظاً من الانغماس في هذه المسألة، وتولي وضع المدنيين، وضمان وصول المساعدات، قدراً من الاهتمام، بخلاف موسكو التي لا يعنيها سوى تثبيت النظام السوري بمختلف الوسائل، ومنها التدخل العسكري المباشر.
وخلافا لنبرة المتحدثة باسم الخارجية الصينية التي اتسمت بالهدوء والتحفظ، خرجت صحيفة الشعب الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الصيني، قبل يوم من تصريح المتحدثة الدبلوماسية، بتحليل يحمل نبرة اتهام لروسيا والولايات المتحدة بالتورّط في تدخل عسكري مباشر، بما يفيد بـ”العودة إلى لعبة الحرب الباردة”، حسب وصف الصحيفة، مشيرة إلى الحاجة أن “يدرك البلدان أن ذلك العهد قد ولّى”، وكتبت “الشعب” إنه “يجب أن لا يقف أحد موقف اللامبالاة، فيما تصبح سورية ساحة حرب بالوكالة”. بما يفيد بانتقاد قوي، وإن جاء ضمنياً للتدخل العسكري الروسي في سورية من بكين التي تضاهيه بـ”التدخل الأميركي”. والموقف، هنا، لا يتوقف عند الاعتراض، بل يحمل دعوة المجتمع الدولي إلى عدم الوقوف موقف المتفرج إزاء هذا التطور على الساحة السورية.
أما وزارة الدفاع الصينية فقد ذكرت، الأربعاء، عقب تصريحات المتحدثة باسم وزارة الخارجية، أنه ليس لديها ما تضيفه إلى تصريحات الناطقة، وأضافت في بيان لها “لم تكن الصين هي التي جلبت الفوضى إلى سورية، ولا يوجد سبب يجعلها تندفع صوب جهات القتال، وتقوم بدور صدامي”. وفي اليوم نفسه، اعتبرت صحيفة غلوبال تايمز الصينية، وهي شقيقة “الشعب” الأنباء عن تدخل عسكري صيني “إشاعة لا أساس لها من الصحة”.
يتبدّى مما تقدم أن ثمة محاولات محمومة ترمي إلى زج الصين في الحرب، عبر حملة “إخبارية”، مع إثارة حميّة أيديولوجية لدى بكين بمنازلة أميركا في سورية، ولكن، عبر استهداف المعارضة المعتدلة و”تأديب” المدنيين، وباستخدام كثيف لعنوان: الحملة على داعش وعلى الإرهاب.
ليست الصين عضواً في التحالف الدولي القائم ضد داعش منذ نحو عام، لكنها غير مقتنعة أيضاً، وغير راغبة، حتى تاريخه على الأقل، بالالتحاق بالحملة الروسية، وتفسير ذلك، وفق المنظور الصيني، أنها تريد عالماً متعدد الأقطاب، وليس عالماً يسوده قطبا أميركا وروسيا المتنازعان على النفوذ.
تُحسن بكين صنعاً بالالتزام بهذه السياسة، والتقيد بها، فآخر ما تحتاج إليه سورية والسوريون الاستعراضات العسكرية المدمرة التي تضيف دماراً وكوارث إلى ما سبق من وقائع الدمار والمأساة. سورية بحاجة إلى حل سياسي جدّي، وفق مرجعية “جنيف 1″، وإلى حمل الأطراف بغير مزيد من التأخير على الانخراط في مفاوضاتٍ، لتحقيق هذا الهدف، بما يمكّن تالياً من حشد حملة واسعة وفعالة، للقضاء على داعش، بدلاً من الحملة الدائرة حالياً للقضاء على الشعب السوري.
محمود الريماوي
صحيفة العربي الجديد