مقارنة بالتحالف الدولي المناهض لـ «داعش»، وقبله التدخل المتعدد الوجوه لإيران وأنصارها في الصراع السوري، يحظى التصعيد العسكري الروسي بالاهتمام الأكبر، ربما لشيوع إحساس بأنه، وفي هذا الوقت بالذات، قد يصنع فارقاً نوعياً في مجرى الأحداث لجهة حماية الوضع القائم، وإنقاذ نظام منهك، وإجهاض فرصة حدوث تبدّل نوعي في توازنات القوى ربطاً بالتقدم الذي أحرزته المعارضة المسلّحة في غير موقع، والأهم، تقديراً وتحسباً من ارتداداته وتداعياته الإقليمية.
في لبنان، لا أحد ينكر ارتباط مصير هذا البلد وأمنه بما قد يسفر عنه الصراع السوري، بما في ذلك تحديد أدوار القوى الفاعلة وطريقة معالجة قضاياه المعلقة، كانتخاب رئيس الجمهورية ومجلس النواب، وإذ تنامت لدى أطراف لبنانية خلال الشهور المنصرمة، رهانات على سقوط وشيك للنظام السوري، وبدا نبضها أقوى وصوتها أعلى دفاعاً عن مواقعها واشتراطاتها، فإن التصعيد الروسي أضعف موضوعياً رهاناتها، وردّ الروح الى أطراف أخرى اقترن وزنها ودورها باستمرار النظام، مانحاً إياها عزماً جديداً للتشدّد والتمسك باشتراطاتها، ما يرجح استمرار الاستعصاء السياسي القائم وشحن الأجواء بمزيد من التوتر وتالياً من التخندق، بين معوّلين على هزيمة وشيكة لموسكو، ومتوهّمين بعودتها الظافرة لتلعب دورها كقوة عظمى!
يعيد التصعيد العسكري الروسي بناء الحسابات والاصطفافات في المشهد العراقي، وعلى رغم طغيان الحاجة الى أي فعل يوقف تدهور حليفهم السوري، ظهرت تحفظات لدى بعض أنصار إيران من أن يفضي جديد موسكو إلى تحجيم دورهم ونفوذهم، وفي المقابل يخفف هذا التصعيد موضوعياً من ارتهان أطراف عراقية للخارج ويوسّع هامش مناورتها. وليس عديم الدلالة الرفض المتفاوت الشدة من واشنطن وطهران لتلميحات حيدر العبادي عن احتمال دعوة موسكو الى توجيه ضربات جوية ضد مواقع «داعش» في العراق، وكذلك التعاطف الكردي عموماً مع جديد الدور الروسي، بصفته عامل قوة إضافية داعماً لهم ورادعاً لعدوهم التركي اللدود! في حين يأمل سنّة العراق بأن يحرض هذا الحدث رداً أميركياً للتقرب منهم، ولدعم صحواتهم وتسليحها، أو على الأقل تحسين موقعهم مع ترقب نشوء تنازع بين موسكو وطهران على النفوذ!
أخطار الصراع السوري التي تهدّد الأردن كثيرة، وهمومه كثيرة أيضاً لتوظيف أي مستجد لتجاوزها، وإذ أدانت نخب أردنية ما تعتبره محاولة موسكو إنقاذ النظام، أشادت نخب أخرى بتدخل روسيا باعتباره فعلاً تقدمياً، حرر الصراعات القائمة من بعدها المذهبي وأعاد إليها وجهها السياسي! بينما تتطلّع فئة ثالثة الى دور روسي، قد ينجح ولو جزئياً، في وقف العنف المنفلت واستفزازاته الطائفية التي تشحذ همم التطرف الجهادي وتحفز قدرته على التعبئة، أو في ضبط التحرشات العسكرية لقوات النظام وتهديداته لعمّان على أنها تمرر السلاح للمعارضين وتوفر ملاذاً لمنشقّين عسكريين ومراكز تدريب لهم!
تبدو سلطة أردوغان أكبر الخاسرين من التصعيد الروسي، الذي يلجم قدرتها على منع قيام حكم ذاتي للاكراد في شرق سورية وشمالها، ويقيد يديها في توجيه ضربات تأديبية ضد قواعد العمال الكردستاني. والأهم، أنه يقطع الطريق على محاولاتها انتزاع اعتراف دولي بإدارة منطقة آمنة تمتد على طول حدودها مع سورية. وإذ تخشى حكومة أنقرة اقتراب موعد دفع ثمن لعبها بورقة القوى الإسلاموية الجهادية وثمن تلكؤ المجتمع الدولي تجاه الصراع السوري، فإنها ستتقبل على مضض ما يحصل، متجنّبة على الأرجح دفع الخلاف مع موسكو إلى حدّه الأقصى، آخذة بالاعتبار أن الجديد الروسي قد ينعش علاقاتها بالغرب، لكنه لن يمنحها غطاءً أطلسياً للتحدي والمكاسرة، بدليل تصريح أردوغان عن تفهمه لرؤية الكرملين حول المرحلة الانتقالية في سورية، ومسارعة حكومته الى لملمة ما اعتبرته خرق الطائرات الروسية مجالها الجوي!
فأنقرة تعي حجم الخسارة من تدمير ما بنته من روابط اقتصادية مع موسكو، وتدرك مصيرها حين تتجه قيادة الكرملين جدياً الى دعم القوى الكردية المناهضة لها، بخاصة أنها على مشارف عملية انتخابية، ولا يملك أردوغان سوى ورقة الاستقرار والنمو الاقتصادي لاستعادة شعبيته.
وإذ تعلن إيران تأييدها للحضور العسكري الروسي ما دام يمكّن حليفها ويخفف الأعباء عنها، فإنها تبقى متحسّبة سراً من اضطرارها مستقبلاً لمنازلته على النفوذ، بينما تبدو إسرائيل أكبر الرابحين، فجديد الدور الروسي يضعف على المدى البعيد نفوذ طهران وحليفها حزب الله، ويمنح موسكو إمكانية أكبر للتحكم بقرار النظام السوري ولجم احتمال أن يشجعه حلفاؤه على المغامرة بافتعال حرب معها لتصدير أزمته. والأهم، أنه يتناغم مع رغبة قديمة لتل أبيب في الحفاظ على الدولة السورية، لكنْ ضعيفة ومنهكة، بما يبعد اليوم من حدودها شبح قيام إمارة إسلاموية تربكها في حال تواصلت مع التيارات الإسلامية الفلسطينية!
كثيرة هي المؤشرات التي تدل على براغماتية روسية فجة في التعاطي مع الصراع السوري، هاجسها الرئيس ليس المبادئ، وليس الارتدادات الإقليمية، بل ضمان استقرار مصالحها ونفوذها، ليأتي تصعيدها العسكري، مرة دفاعاً عن أمنها الذاتي بمنازلة الجهاديين على الأرض السورية ومنع قيام قاعدة ارتكاز تحرض على التطرف بين مسلمي روسيا والدول المجاورة لها، ومرة ثانية لفرض حضور وازن يمكّنها من موقع القوة من دخول أية مفاوضات مرتقبة لمعالجة الملف السوري، وتالياً دفع تنافسها مع الغرب على النفوذ والأدوار إلى مستوى أعلى.
ويبقى العامل الأهم في معايرة جديد التصعيد العسكري الروسي وارتداداته الإقليمية، هو توازنات القوى كما قد ترسمها المعارك المستعرة على الأرض، بخاصة حين يلجأ بعض خصوم موسكو إلى مد المعارضة بسلاح نوعي يعقّد مهمة روسيا ويطيل أمد الصراع ومعاناة السوريين! فهل يحمل القادم احتمال أن يفقد الكرملين نفوذه ووزنه المشرقيين وتعود قواته خائبة، أم يفتح الباب على توافقات دولية لمعالجة محنة سورية فاضت بالتدخلات السافرة وبالخراب والضحايا والمشردين!.
أكرم البني
صحيفة الحياة اللندنية