عادةً، يثير الغموض المصاحب لعمليات الاغتيال أو محاولاته جدلاً واسعاً، نجحت أو أخفقت، غير أن أكثر الاغتيالات تأثيراً فعلياً في مسارات الدول ومصائرها هي التي تكون واضحة الأبعاد معلومة الأهداف، وربما أيضاً الأطراف. وهذا هو التوصيف الدقيق للعملية التي استهدفت تصفية رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، فهي واضحة أو بالأدق “مكشوفة” ولا خبايا فيها. فقد جاءت في ظل احتقان داخلي على خلفية نتائج الانتخابات البرلمانية، التي جاءت مخيبة لآمال مشايعي إيران وأذرعها في العراق. وتزامنت العملية مع محاولات قامت بها تلك الأذرع الإيرانية لخلخلة الأمن وإسقاط سيطرة المؤسسات الرسمية على الوضع الأمني في قلب بغداد، بل في المنطقة الخضراء. ولولا أن القوات العراقية النظامية نجحت في منع انفلات الموقف، لربما حقّقت محاولة الاغتيال غرضها، حتى وإن خرج منها الكاظمي حياً، فأي اهتزاز للوضع الأمني، أو تراجع في إمساك الحكومة بزمام الأمور، كان سيشجع أعداء الكاظمي على إطاحته وفرض أمر واقع جديد، وربما اختطاف السلطة.
وسواء تورّطت طهران، بشكل مباشر أو ضمني، المؤكد أن أذرعها في العراق لا تملك الإقدام على خطوة بتلك الجرأة والأهمية، بشكل منفرد وبمعزل عن الراعي الإيراني. وليس هذا جديدا على السياسة الإيرانية وأساليبها التي تميل دائماً إلى القوة والوسائل غير المشروعة، حين تعدم الوسائل السلمية، ولا تلبي المشروعية أهدافها.
المفارقة أن الفوائد التي ستعود على العراق من تلك المحاولة الفاشلة أكبر وأعمق مما قد يتصوّر بعضهم، فعلى الرغم من أنها تحمل رسالة تهديد قوية من الجماعات المسلحة الموالية لطهران داخل العراق، إلا أن المردودين، السياسي والأمني، لإخفاقها معاكسان تماماً لمضمون تلك الرسالة، فبشكل مباشر وفوري، ستنشئ هذه المحاولة قوة دفع كبيرة للكاظمي، للمضي فيما بدأه من سياسات وإجراءات لاستعادة العراق الوطني من براثن النفوذ الإيراني. وبعد أن كان الكاظمي يتحسّب ويفكر ألف مرة قبل فتح ملفات شائكة وحساسة، مثل انفلات السلاح وسيطرة المليشيات وتداخل الروابط الطائفية مع شبكات الفساد المصلحي وقضايا أخرى شديدة الصعوبة في التعاطي معها، سيصبح أكثر جرأة وقوة في التصدّي لهذه الملفات، ربما ليس بشكل كامل أو فجائي. لكن على الأقل سيتمكن من قطع أشواط أبعد فيما كان يتردّد فيه قبل تعرّضه لمحاولة الاغتيال. وسيستند الكاظمي في ذلك إلى تصاعد الزخم المؤيد له إقليمياً وعالمياً. واضطرار الأطراف المناوئة له داخل العراق وخارجه إلى التراجع خطوة إلى الوراء، والتوقف، ولو مؤقتاً، عن أي تحرّكات أخرى متهورة. والأهم أن تلك الوقفة نفسها ستحظى أيضاً برعاية إيرانية، فأياً كانت حدود ارتباطها بمحاولة الاغتيال، الثابت أن إيران أضحت في مأزق حقيقي أمام العراق والعالم.
ولعل هذا ما دفع قائد فيلق القدس، اسماعيل قاآني، إلى زيارة بغداد بعد محاولة الاغتيال بساعات. توجّه مباشرة للقاء الكاظمي لنفي المسؤولية عن طهران، ثم التقى قادة فصائل وقوى موالية لإيران ورموزها، لتطويق الأزمة وتهدئة الموقف وبث رسائل طمأنة لبغداد.
ستفرض محاولة اغتيال الكاظمي قيوداً جديدة على سلوك طهران ومواقفها تجاه العراق، وستتيح للكاظمي والعراقيين الوطنيين، بل تفرض عليهم، انتهاز الفرصة والطرْق على الحديد وهو ساخن، باتخاذ إجراءاتٍ ملموسةٍ وخطواتٍ حاسمةٍ لفرض السيطرة الأمنية الكاملة للقوات الحكومية، وأهمها إصدار قانون “خدمة العلم” الذي سيضمن حصر السلاح بين يدي الدولة وحلّ كلّ المليشيات المسلحة أو دمجها بشكل كامل في القوات الحكومية. بل ستلعب تلك المحاولة الفاشلة لاغتيال رئيس الوزراء العراقي دوراً مؤثراً في ضبط بوصلة التحالفات البرلمانية الجديدة، ومن ثم تشكيل حكومة عراقية قوية وأكثر حرصاً على تحويل حلم بناء الدولة العراقية الوطنية إلى واقع، ولو بعد حين.
العربي الجديد