لكي نفهم سلوك مافيات السلاح في العراق

لكي نفهم سلوك مافيات السلاح في العراق

من الصعب على أي متابع أو محلل سياسي وضع تفسيرات وأحكام وتوقعات لما يحصل حالياً في العراق على مقاسات وأحكام أكاديميات الفقه السياسي ومناهجه، ذلك أن المواقف والأحداث تسير في بغداد تحت أحكام حيثيات وطلاسم مقفلة صاحبها وراعيها ولي “التقيّة والجهاد الشيعي” علي خامنئي.

الموالون لتلك القيادات الحزبية الشيعية المتورطة بالفساد والفشل هم وحدهم من يُفسّرون المواقف ويفككون الأحداث وفق فرضيات أولها التسليم بحكم الشيعة الولائية ومقدساتها المفضوحة، وثانيها عدم الاعتراف بالسياق الديمقراطي المعاصر الذي يفرض وفق قوانينه العامة تنحي الفاشل ومحاكمة السياسي السارق وإبعاده عن الحقل السياسي.

ما عدا ذلك، لكي تفهم افتراضياً وجدلياً ما يجري عليك كمثقف أو إعلامي أو سياسي عراقي وطني من خارج اللعبة أن تُبطئ حركة عقلك وتُرخي خيوطه وصولا إلى حافة الانهيار نحو الجهالة، وتوقف منطق جدلية الصح والخطأ، وتخرج من أبجديات العصر إلى التعاطي مع عالم لاهوت الشرّ فتفُسر الوقائع وفقه، حتى وإن اختلفت في الجزئيات فإنك ستبقى ضحية تعميم التجهيل وقبول الخراب على أنه تجربة شيعية يمكن تصحيح بعض أخطائها.

الأخطر في تقديري على دينامية المواجهات السلمية التي تخوضها نخب الثورة الشبابية ومساندوها من الوطنيين العراقيين، ومنع وصولها إلى مراحلها الحاسمة في عزل جماعات الفشل والفساد في لحظة تفككها الانتخابي القانوني والدستوري الحالي، هم أولئك المتصدرّون لحوارات بعض القنوات الفضائية تحت عنوان “مفكر شيعي عراقي” وتحت مظلة النقد المُزيف يفلسفون لحظة الانهيار بتعمّد أخطر مما يسببه الموت الحقيقي الذي يسببه سلاح الميليشيات الموجه ضد المواطنين أو حتى رمز الحكومة.

هؤلاء أكثر خطورة من سّذج الحكم، فهم يرمون شباك النجاة للقتلة والفاسدين في عملية تجهيل مُتعمد للعقل العراقي بتبرئة رموزهم وولاة أمرهم، وإحالة كل الخطايا والكوارث داخل العراق على الولايات المتحدة وإسرائيل حسب معلوماتهم السطحية، والاصطفاف مع رغبات الحكام المنبوذين من الناس وتحويل حلول الفشل والانهيار إلى ضرورة الدفاع عن الطائفة “الشيعية الحاكمة”.

أزمة إمبراطورية مافيا الفشل والفساد ما زالت حتى في لحظات ما بعد مؤامرة اغتيال رئيس وزراء العراق الكاظمي تستخدم قوانين عالمها المافيوي في جعل السلاح وسيلة إذعان سياسي لقبول لعبة التوافق في قيام الحكومة المقبلة

الكوارث الفردية والاجتماعية التي أدت وتؤدي إليها تجارة المخدرات في أميركا اللاتينية، خصوصاً المكسيك وكولومبيا، على المجتمع الأميركي معروفة من حيث مخاطرها الوجودية على الحياة الأميركية، مطيحة بالمنافع الإنسانية لمستويات التطور العلمي والتقني والرفاه الاجتماعي والفردي الذي أنتجه التطور المدني الهائل هناك، ومعرضة نسبا عالية من الشباب الأميركي إلى كوارث تحطيم الشخصية أكثر مما تحدثه الصراعات السياسية والطائفية وسلاح الميليشيات من فقدان لأرواح الناس في العراق، رغم فروقات المثالين.للخروج من معضلة البحث عن تفسير للوقائع يمكن الذهاب إلى عالم وقانون آخر، غير عالم السياسة، يمكن الاستعانة به كمرشد ودليل مساعد على فهم ما يحصل في العراق حالياً. شخصياً اهتديت إلى فرضية بسيطة وتشبيه قريب إلى ما توصل إليه الناس البسطاء في العراق من أحكام، اعتمدت الفطرة والتاريخ، على مجموعة سلطة الأحزاب وميليشياتها بأنها تشبه إلى حد كبير في الدوافع والسلوكيات ما يحدث في عالم المافيا. لهذا سأحاول من خلال هذه السطور الاستعانة بهذه المقاربة للوصول إلى فهمٍ مُبسّط لما يحدث حالياً داخل العراق.

من يتابع أساسيات عقيدة مافيا المخدرات ونظامها الداخلي العام لا يجدها بعيدة عن سلوك زعماء وقادة الإسلام السياسي الشيعي في العراق، بل هناك تجربة رثّة تمارسها هذه الميليشيات في ميدان المخدّرات أيضاَ، الهدف الرئيسي منها الحصول على المال، والخيار الأول لحلول المشاكل ولغة التخاطب بين الخصوم هو السلاح.. القتل بلا رحمة.

أمثلة كثيرة لمجموعة آل كابوني من مافيا المخدرات لا تختلف عن رموز نهب المال العراقي وعوائلهم التي أصبحت بحاجة إلى مسلسلات ذات عناوين كالتي تقدمها مؤسسة “نتفليكس” الأميركية التي أرّخت مشكورة لأساطير قادة مافيات المخدرات في أميركا اللاتينية. حيث قدّمتْ أمثلة واقعية بعرض درامي متميز لبعض الجوانب الإنسانية لأولئك القادة المجرمين مثل شخصية الكولومبي بابلو إسكوبار في المسلسل الذي يحمل اسمه، الذي فاز حقيقة وهو يمارس تجارة المخدرات بمقعد في البرلمان الكولومبي، وكان يبني من بعض أرباحه الخيالية المشاريع الخيرية للمحتاجين من الفقراء.

المثال الآخر إمبراطور المخدرات المكسيكي فيليكس غالاردو الملقب بماركوس زعيم مافيا الكوكايين الذي أغرق الولايات المتحدة بالموت الجماعي، كان ربحه السنوي يتجاوز أربعة مليارات دولار في ثمانينات القرن الماضي لكنه وقع في الخطأ القاتل باغتياله رمزاً من رموز الدولة الأميركية الوكيل السري لوكالة مكافحة المخدرات في المكسيك الذي تسلل إلى داخل منظمة كارلوس. هل تتكرر تجربة هذا الخطأ لدى زعيم أو أكثر من الميليشيات في العراق لتواطئهم بتنفيذ مؤامرة قتل رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي؟

مظاهر إنسانية متعددة تحصل في سلوك قادة المافيا لأهداف حماية المهنة لم تطابقها في هذا الجانب سلوكيات من يدعون التقوى والسير على خطى أهل البيت زعماء الإسلام السياسي الشيعي في العراق يشجعون من بعيد تجارة المخدرات عبر ما يسمى “الكبسول” القادم من إيران لتدمير الشباب العراقي، ويسرقون كل ما تصل إليه أياديهم وأيادي عملائهم من مال العراقيين معتقدين أن إرسال جزء منه تحت أغطية ما يسمى بالفقه الشيعي “الخُمس” إلى ولي الفقيه الإيراني سيحررهم من التبعية الفقهية دون اعتبار لتبعية القوانين الحكومية المحلية والدولية.

وفقاً لهذه الأمثلة من عالم المخدرّات قد نقترب من تفسير الوجه الخفيّ لما يحصل الآن من تصعيد لصراع النفوذ بين الزعامات الشيعية على هامش رفع الغطاء الانتخابي لبعضها واللجوء إلى التهديد بالسلاح كميدان طبيعي لحسم المواقف التي لا علاقة للشعب أو حتى بعض قوى المكونات الأخرى كالسنة والأكراد بها. إنها أزمة إمبراطورية مافيا الفشل والفساد ما زالت حتى في لحظات ما بعد مؤامرة اغتيال رئيس وزراء العراق الكاظمي تستخدم قوانين عالمها المافيوي في جعل السلاح وسيلة إذعان سياسي لقبول لعبة التوافق في قيام الحكومة المقبلة.

من يتابع أساسيات عقيدة مافيا المخدرات ونظامها الداخلي العام لا يجدها بعيدة عن سلوك زعماء وقادة الإسلام السياسي الشيعي في العراق

التصريح الصحافي لأحد ممثلي مقتدى الصدر نصار الربيعي، إذا ما صحّ، يقدم مثالاً مباشراً لسلوك الفريق الميليشياوي المهزوم حيث يقول إن “قادة الميليشيات فارغون ويتّبعون أسلوب الغدر في التعاطي مع خصومهم”.

ويضيف “بإمكان التيار الصدري اعتقال المالكي والخزعلي والعامري خلال عشر دقائق”. لكن لماذا لا يفعل ذلك ويريح العراقيين؟ يبقى سؤالاً مُحيّراً.

لعل من حسن حظ العراقيين أن ما كانوا يعرضونه من أمثلة عن عمالة زعامة الميليشيات لإيران يعترف به زعيم شيعي صدري هو الربيعي ذاته بقوله إن “منظمة بدر بزعامة هادي العامري كانت عميلة لإيران وتورطت في قتل الأسرى العراقيين إبان حرب الثمانينات مع إيران، هي نفسها عادت بعد 2003 إلى العراق لتشن حملة اغتيالات كبيرة ضد الطيارين والأطباء ومختلف الكفاءات العراقية”.

هكذا إذن، تهديد زعامات الفشل والفساد بحرب شيعية – شيعية لا يُقصد به تخويف الناس المرعوبين أصلاً من ممارسات القتل والتجويع وانتهاكات حقوق الإنسان المستمرة، بل إذعان المتخاصمين حول درجات النفوذ في الحكومة المقبلة ومساحاته.

ومثلما وصل إليه حال إمبراطوريات مافيا المخدرات في أميركا اللاتينية من تفكك وانهيار أواخر القرن الماضي بسبب أخطاء النفوذ القاتلة، تتفكك حالياً إمبراطورية الفساد والنهب والعمالة للأجنبي في العراق، ولن تعيدها للحياة جرعات إسماعيل قاآني ووصايا ولي الفقيه خامنئي الذي يداوي عبثاً تهاوي وانهيار مشروع سيده الخميني في استمرار نفوذ الفوضى والعبث بمصير شعب العراق وشعوب المنطقة.

العرب