بينما تهدّد تركيا بتوغل آخر في الأراضي التي تقع تحت سيطرة الأكراد في سوريا، قامت رئيسة “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” إلهام أحمد بزيارة إلى واشنطن، للحصول على تأكيدات أوضح بشأن استمرار الوجود والحماية الأمريكيين. ويبدو أنها لم تحصل إلا على تصريحات مبهمة في الجلسات الخصوصية. بإمكان واشنطن أن تكتسب نفوذاً أكبر على روسيا والجهات الفاعلة الأخرى بمخاطر وتكلفة منخفضة ومقبولة، من خلال طمأنة حلفائها الأكراد عبر تدابير دبلوماسية وعسكرية واقتصادية مؤقتة.
في خضم الجدل الحاد الجديد الذي يدور اليوم حول “التطبيع” مع نظام بشار الأسد الوحشي بل المستحكم في سوريا، يغيب عن المعادلة أمرٌ أساسي، وهو أكراد البلاد الذين يفوق عددهم المليونَي نسمة. فقد عمل هؤلاء مع السكان العرب المحليين وغيرهم من الموجودين تحت حمايتهم على إنشاء “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” خلال الانتفاضة الجماعية الحاشدة التي بدأت ضد الأسد منذ عقدٍ من الزمن. واليوم هم شبه وحيدين في التصدي لمحاولة النظام استعادة منطقتهم – ويعود ذلك جزئياً إلى الدعم الأمريكي الذي حصلوا عليه عند قيادة الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا.
إلا أن طبيعة ذلك الدعم الأمريكي – الذي يتضمن نشر حوالي 900 جندي أمريكي على الأرض – ومدته وشروطه المحتملة أصبحت كلها اليوم موضع تساؤل، وليس للمرة الأولى. فمن المعروف أن الرئيس الأمريكي السابق ترامب منح تركيا مرتين الضوء الأخضر لدحر الأكراد بعيداً عن حدودها عبر نقل القوات الأمريكية جنوباً. وبينما تهدّد تركيا حالياً بتوغل آخر، قامت رئيسة “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” إلهام أحمد بزيارة إلى واشنطن الشهر الماضي، للحصول على تأكيدات أكثر وضوحاً بشأن استمرار الوجود والحماية الأمريكيين. ويبدو أنها لم تحصل إلا على تصريحات مبهمة في الجلسات الخصوصية، حيث لجأ المسؤولون الأمريكيون علناً وراء الادعاء بأن سياستهم تجاه سوريا برمّتها لا تزال “قيد المراجعة”.
وأخيراً صرّح هذا الأسبوع مسؤولٌ أمريكي مجهول الهوية في مقابلة أن هذه المراجعة انتهت. وبشكل عام، لن تؤيد واشنطن أي تطبيع عربي أو غيره مع الأسد – ولكنها لن تعارضه بفاعلية أيضاً، ولم يتم ذكر الأكراد بشكل خاص. ومع ذلك، إذا قرأنا ما بين السطور، تتجلى بعض النقاط الجوهرية بشأن هذه القضية الحساسة.
وإحدى تلك النقاط هي تكرار الالتزام “بالحفاظ على حملة الولايات المتحدة والتحالف الدولي ضد تنظيمي «الدولة الإسلامية» و«القاعدة»”. ومن المرجح أن تكون ترجمة هذا الكلام الدبلوماسي هي أن بعض الجنود الأمريكيين سيبقون في سوريا لمساندة «قوات سوريا الديمقراطية» ونصحها خلال تلك الحملة الجارية ضد الإرهاب. لكن ما زال من غير المعروف كم سيكون عدد هؤلاء الجنود وفترة بقائهم ومكان بقائهم على وجه التحديد.
النقطة الثانية هي “دعم اتفاقات وقف إطلاق النار المحلية في جميع أنحاء البلاد”، مما يعني على الأرجح أن الولايات المتحدة ستعارض، على الأقلّ دبلوماسياً، أي توغل تركي إضافي في مناطق الأكراد. ومن المفترض أن يمنح هذا الأمر الأكراد بعض الطمأنينة. ولكن هنا أيضاً لم يُعلن بعد عن تفاصيل هذا التعهد أو مدته.
ويُقال إن المبدأ الثالث لسياسة الولايات المتحدة في سوريا في المرحلة المقبلة سيكون “توسيع نطاق وصول المساعدات الإنسانية لرفع مستويات المعونة في جميع أنحاء سوريا”. وفي حين يبدو هذا الأمر مغرياً، إلا أنه في الواقع إشكالي. وأحد أسباب ذلك هو أنه يوفر الأساس المنطقي للتراخي في تفسير العقوبات ضد نظام الأسد، مما يفتح الباب أمام إبرام صفقات في قطاعي الكهرباء والنفط وربما أيضاً في قطاعات أخرى ستصبّ حتماً في خدمة النظام.
فضلاً عن ذلك، فيما يتعلق بالأكراد، تشير الأدلة المتوفرة حتى الآن إلى الاتجاه المعاكس تماماً. فحتى مع تخفيف العقوبات والتوسط في صفقات تخص أجزاء أخرى من سوريا، ستبقى البيروقراطية الأمريكية حاجزاً يعيق إجراءات الموافقة على المعابر الحدودية وعقود النفط وغيرها من عقود التجارة أو الاستثمار في المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد. وقد تكون الفكرة الأساسية كما يلي: بما أن الولايات المتحدة لن تبقى في سوريا إلى الأبد، من الأفضل للأكراد أن يبرموا اتفاقيات اقتصادية وسياسية مع نظام الأسد بدلاً من ترك أنفسهم تحت رحمة تركيا.
وصحيحٌ أن هذا الموقف مفهوم، لكنه يثير سؤالين: لماذا الآن؟ ومن ثم، أي نوع من الاتفاقيات؟ وهنا تحتاج السياسة الأمريكية إلى تصحيح مسارها. أولاً، ليس من المنطقي على المدى القصير، لا من الناحية الإنسانية ولا الاستراتيجية، أن تخفف الولايات المتحدة العقوبات على نظام الأسد الخصم، بينما تضع في الوقت نفسه عقبات صعبة أمام النشاط الاقتصادي الحيوي في المنطقة التابعة للأكراد والمتحالفة مع أمريكا. ومن المنطقي أكثر اعتماد السياسة المعاكسة – أو على الأقل معاملة الأسد و”الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” على قدم المساواة بهذا الشأن.
ثانياً، على المدى المتوسط، يجب على إدارة بايدن أن توضح التزامها بالحفاظ على استقلالية شمال شرق سوريا في إطار أي حل تدريجي للوضع السياسي العام في سوريا. وقد تتمثل الخطوة الأولى هنا في الإصرار على تمثيل “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” في الجولات المقبلة من مناقشات الأمم المتحدة أو غيرها من المناقشات الدبلوماسية أو الدستورية بشأن مستقبل سوريا. فتكون الخطوة الثانية هي التأكيد على نية القوات الأمريكية البقاء في شمال شرق سوريا على الأقل إلى حين اتفاق “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” على بعض الترتيبات السياسية الجديدة مع الحكومة في دمشق.
ومن المؤكد أن الأسد سيعترض على هذا الأمر، لكن من الممكن حث روسيا على تأييده مقابل تنازلات في مسألة إعادة الإعمار أو غيرها من القضايا المتنازع عليها. وحتى تركيا قد توافق لقاء تأكيدات أقوى بأن الميليشيات التي يقودها الأكراد ستبقى بعيدة عن الحدود أو ستحدّ على الأقل من وجودها في المدن الرئيسية المجاورة أي القامشلي وكوباني ومنبج وتل أبيض (كري سبي) ورأس العين (سري كانيه).
وقد يكون لمثل هذه التعديلات في سياسة الولايات المتحدة مزايا عديدة. فهي ستثبت للرأي العام المحلي والدولي ككل أن الولايات المتحدة ستبقى وفية للأكراد الموالين لها ولحلفائها الآخرين في سوريا. كما أنها ستعطي الولايات المتحدة نفوذاً أكبر على كافة الأطراف الأخرى على هذه الساحة، وذلك بمخاطر قليلة وتكلفة منخفضة بشكل مقبول بالنسبة لواشنطن، وستضفي قوةً إضافية على المتطلبات المستمرة لمكافحة الإرهاب في المنطقة كلها. وعلى اعتبار أن هذه التعديلات هي قيمةً مضافة خفية بل مفيدة جداً، فسوف تضع قيوداً أكبر على الاستحكام الإيراني الخطِر في سوريا – وهو أحد المحركات الرئيسية للسياسات العربية والأمريكية والإسرائيلية هناك.
وفي الوقت نفسه، مهما كانت هذه التعديلات مرغوبة، إلا أن التقييم الواقعي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار بأنه من غير المرجح أن تصبح هذه التعديلات أولوية عالية للسياسة الخارجية الأمريكية إذا كانت هذه الأخيرة منشغلة بمشاكل أخرى وتميل إلى خفض عدد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط. ولكن في غياب الدعم الأمريكي الأقوى، يجب على أي تقييم واقعي أن يخلص أيضاً إلى المثل القديم القائل: “لا صديق للأكراد إلا الجبال”. والمؤسف أن منطقة شمال شرق سوريا لا تحتوي على جبالٍ تُذكر.
ديفيد بولوك
معهد واشنطن