ارتفع علم الثورة السورية في ساحة ميدان في العاصمة الأوكرانية كييف خلال الانتفاضة التي أطاحت حليف روسيا فيكتور يانوكوفيتش في شباط (فبراير) 2014، وكان ذلك تعبيراً عن وحدة المشهد الذي يجمع الثورات الحديثة في العالم. وربما منذ ذلك الوقت يضمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشر للثورة السورية التي أخذت تتحداه بعدما استمر في تعطيل مجلس الأمن وإمداد نظام الأسد بالأسلحة والذخائر التي تقتل الأطفال والأبرياء.
وتتخذ إدارة الرئيس بوتين موقفاً جذرياً من ثورات الشرق الأوسط وأوروبا إلى حد أنها رفعت درجة المخاطر التي تشكلها «الثورات الملونة» على أمنها ومصالحها وأدخلت مهمة مكافحة إرهاصاتها في صلب العقيدة العسكرية الروسية الجديدة.
ويبدو أن انتصار الشعب السوري على نظام الأسد لديه وقع عالمي ويشكل واحدة من تلك الإرهاصات التي تصل إلى موسكو، فهو يسقط هيكلاً إضافياً من تلك التي أخذت تتساقط منذ ثورة الورود في جورجيا أواخر 2003، حيث لا يعود لبوتين قواعد نفوذ خارجية يستطيع الإطلال عبرها على التوازنات الدولية.
وهذا الأمر يشكل مأزقاً حقيقياً لروسيا التي تصبح مُلزَمة بالتدخل عسكرياً لوقف خسائرها ومحاولة فك العزلة الدولية عنها. إنما هل تقف خيارات روسيا فعلاً عند هذا الحد الذي يستدعي التصرف في سورية وكأنها ضمن الفضاء الروسي المباشر، وهل ستفضي العراضة الروسية في الشرق الأوسط إلى تكريس دورها كشريك منافس للغرب في النظام الإقليمي الآخذ في التبلور، أم كمتصدٍ لطموحات الشعوب وداعم للديكتاتوريات ليس إلا؟.
طبعاً إن اللغة التي تُمسك بها روسيا مصالحها هي لغة العداء التاريخي للغرب والخوف من انتشار الديموقراطية، أما التوجهات الداخلية للشعوب في التحرّر من طغمة الحكّام الفاسدين فلا تشكل بالنسبة لها إلا تهديداً للمصالح الاستراتيجية!
والدخول على خارطة المصالح الدولية من هذه النافذة الضيقة يُفقد روسيا أدوات التحليل والمخاطبة الحديثة. والروس يتقصدون فعل ذلك، بحيث أن زيارة موسكو أو المشاركة في أحد مؤتمراتها لتحليل ودراسة السياسات في العالم تُظهران ذلك بسهولة. فهم لا يريدون الاستماع إلى النصائح والتوجهات المخالفة لرغباتهم. وبالتالي فالسياسات الخارجية تُصاغ وفقاً لقواعد وهواجس مُحدّدة مُسبقاً وقياساً على مقدراتهم العسكرية.
لقد استعجل بوتين دعوة المتطرفين عنده لملاقاتهم والتحارب معهم على الأرض السورية بدل التقاتل معهم في روسيا، بالضبط كما فعل قبله أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله عندما دعا من يريد معارضته في لبنان إلى مواجهته على الأرض السورية. وكشف بوتين عن هواجسه المكبوتة تجاه الربيع العربي وما يُكنّه للتحولات التي جرت بعد 2011 والتي اتخذ منها موقفاً جذرياً، حيث يشكل تحوير تلك التحولات أو إشغالها في موطنها الأم مصلحة استراتيجية لروسيا تُبعد تأثير الإسلام السياسي عنها، تماماً كما أن التصرف الاستباقي الحازم يبعد تأثير «الثورات الملونة» عن ساحات موسكو.
ما لم يقله بوتين قاله ميدفيديف عندما اعتبر «أننا نقوم بحماية الشعب الروسي من التهديد الإرهابي لأن من الأفضل فعل ذلك خارج حدود بلادنا»، وهذا يُذكّر بما قاله جورج بوش قبل ذهاب جيشه إلى أفغانستان من أنه سيقاتلهم هناك بدل قتالهم في شوارع واشنطن. الأمر بالنسبة للولايات المتحدة لم يكن غريباً، فهي تعتمد الحرب الاستباقية في كل خططها الاستراتيجية، أما بالنسبة لموسكو فالجديد هو التدخل الخارجي الاستباقي بعيداً من حدود الاتحاد الروسي، ما يضع روسيا على مسار الإمبريالية الصاعدة على الساحة الدولية. فما هي النتائج التي يحصدها بوتين من كل ذلك؟
بالتأكيد لن تنزعج الولايات المتحدة من تحوّل الجهد الخارجي للمتطرفين الإسلاميين تجاه روسيا بدل الغرب، لا بل إن الخلفية العقائدية التي وضعت الإسلاميين في مواجهة شيوعية الاتحاد السوفياتي «الكافرة» تعيد انتاج ذاتها لمجرد تورط بوتين في الحرب ضد الثورة السورية، آخذاً جانباً معاكساً لهوية الشريط الإسلامي الذي يحاذيه.
ومشكلة بوتين تكمن في احتمال أن يظن نفسه محصناً عربياً أو إسلامياً لمجرد تنسيق بعض أعماله مع مصر وحاجة العرب إليه كبائع للسلاح!
لقد أراد العرب إدخال روسيا شريكاً رئيساً لهم على قاعدة التخلي عن احتكار الولايات المتحدة الحصري لتلك الشراكة بعد التردد الذي اتبعته إدارة أوباما تجاه قضاياهم الرئيسة والتواطؤ مع إيران في العراق ومراعاة مصالحها على حساب العرب، وكذلك فعلت تركيا التي ابتعدت عن أوروبا وانفتحت على روسيا وأبرمت معها اتفاقات اقتصادية متخطية العقوبات الأوروبية والضغوطات التي أقفلت أمام موسكو طرق نقل الغاز إلى المتوسط. لكن النتيجة كانت إهدار روسيا كل ذلك ورَسْم بوتين طريقاً معاكساً لمصالحه الحقيقية في المنطقة. وبدل الاستفادة من فسحة الشرق الأوسط لتعويض خسائره مع أوروبا، أعاد تكرار الخطأ الذي ارتكبه في أوكرانيا، حيث خسرها وخسر معها ثقة العالم مقابل أرباح متواضعة اقتصرت على عرض مُوفَّق للعضلات في شبه جزيرة القرم وإقامة آمنة للرئيس المخلوع فيكتور يانوكوفيتش في أحد منازل موسكو!
فلدى روسيا في المنطقة مشروع سياسي- عسكري متكامل، ربما إحدى حسناته مزاحمة إيران وأخذ مكانها، إنما الديكتاتوريات على أشكالها تقع. والدخول الروسي إلى سورية يوازي بتأثيره الدخول الأميركي إلى العراق، في ما إذا استحكم.