اتسمت مواقف الدول العربية حيال التدخل العسكري الروسي في سوريا بالتباين الشديد حيث انتقدت المملكة العربية السعودية وقطر -إلى جانب تركيا وأربع دول غربية في التحالف الدولي- الغارات الجوية الروسية، وطالبت بوقف استهداف المعارضة والمدنيين السوريين، فيما أيدت، وباركت كل من مصر والعراق علنا هذه الغارات، ولم يصدر عن باقي الدول العربية أية مواقف علنية حيال هذا التدخل.
ولا شك في أن هناك أسبابا وحيثيات عديدة تقف وراء التباين في مواقف الدول العربية من التدخل العسكري الروسي في سوريا، الذي ستكون له إرهاصات وارتدادات متعددة على قضايا وشؤون المنطقة العربية.
حيثيات المواقف
تعكس الاختلافات في مواقف الأنظمة العربية مواقفها الأساسية من النظام السوري بشكل خاص، ومن الأزمة السورية بشكل عام، التي لها دلالاتها وحيثياتها الخاصة بكل نظام، ذلك أن المواقف العربية اتسمت، منذ بداية الأزمة السورية، بخلافات جذرية حيالها، وظهرت إلى العلن في اجتماعات الجامعة العربية، وتجسدت في محورين متضادين: الأول، قادته السعودية وقطر، وقد حمل الأسد ونظامه المسؤولية كاملة عن الكارثة التي أصابت سوريا والسوريين، واعتبر أن رحيله هو المخرج الوحيد للأزمة.
“المواقف العربية اتسمت -منذ بداية الأزمة السورية- بخلافات جذرية حيالها، وظهرت إلى العلن في اجتماعات الجامعة العربية، وتجسدت في محورين متضادين: أحدهما قادته السعودية وقطر، وقد حمل الأسد ونظامه المسؤولية كاملة عن الكارثة واعتبر أن رحيله هو الحل الوحيد “
والمحور الثاني، ضم العراق ولبنان (المهيمن عليه من طرف مليشيا حزب الله) والجزائر، وكان هذا المحور مرتبكا، وخافت الصوت، بالنظر إلى أن المشهد السوري كان يشي وقتها باقتراب نهاية الأسد، قبل أن تتدخل إيران والمليشيات الطائفية التابعة لها، لتخوض معركة الدفاع عن بقاء الأسد، إلى جانب الدعم الروسي العسكري والسياسي والدبلوماسي، وخاصة في مجلس الأمن الدولي، الذي استخدمت فيه حق النقض (الفيتو) أربع مرات لصالح النظام السوري، وكذلك فعلت الصين.
ومع استيلاء الجنرال عبد الفتاح السيسي على السلطة في مصر، بات النظام المصري يقود المحور الثاني تحت يافطة “الحفاظ على الدولة السورية، والمؤسستين العسكرية والأمنية، مع التستر وراء مقولة أن البديل عن الأسد هو التنظيمات الإسلامية المتشددة، التي تعتبرها القاهرة وموسكو وغيرهما “إرهابية”.
لذلك اعتبر وزير الخارجية المصري سامح شكري أن بلاده ترى أن الضربات الروسية في الأراضي السورية “سيكون لها أثر في محاصرة الإرهاب والقضاء عليه” متناسيا عن عمد، تقارير لجان ومنظمات أممية وحقوقية، اعتبرت أن الإرهابي الأول هو الأسد ونظامه الكيميائي الذي قتل أكثر من ثلاثمئة ألف سوري، وشرد أكثر من نصف سكان سوريا، ما بين نازح ولاجئ، فضلا عن الامتدادات والإرهاصات الأخرى للكارثة السورية، التي سببها تعامل نظام الأسد مع مطالب السوريين في الحرية والكرامة.
وتعود جذور التأييد المصري للتدخل العسكري الروسي في سوريا إلى الزيارة التي قام بها عبد الفتاح السيسي إلى موسكو، بعد التوتر الذي شهدته العلاقات المصرية الأميركية على خلفية انتقاد واشنطن عزل الرئيس السابق محمد مرسي في 2013، وما تلاه من أحداث قمع خلالها النظام المصري أنصار مرسي، وقامت واشنطن بتعليق المساعدات العسكرية للقاهرة لأشهر عديدة.
ويبدو أن الدول الرافضة للتدخل الروسي ليس لديها الكثير كي تفعله، فاكتفت السعودية وقطر بالمشاركة في التوقيع على بيان سبع دول من التحالف الدولي في الحرب ضد تنظيم الدولة، ودعت فيه روسيا إلى تركيز جهودها عليه.
غير أن اللافت هو عدم توقيع الإمارات العربية المتحدة والأردن على بيان الدول السبع، الأمر الذي يشي بتفاهم ضمني مع روسيا على أولوية الحرب ضد تنظيم الدولة، على حساب الكف عن المطالبة برحيل الأسد، لتلتقيا بذلك ليس مع موسكو فقط، بل مع واشنطن، وبرلين ولندن، وسواها من العواصم التي غيرت مواقفها من الأزمة السورية مؤخرا. لكن المشكلة تبقى ماثلة حيال الوثوق بأهداف موسكو، التي لا ترى في سوريا سوى موقع جيوسياسي مهم بالنسبة إليها، وفي الأسد حليفا ضامنا لمصالحها.
وإن كان الموقف الخليجي -بشكل عام- داعما للثورة السورية، وللمقاتلين ضد نظام الأسد -بصورة غير مباشرة- فإنه على المستوى السياسي كانت معظم مواقف دوله تركز على عدم القبول ببقاء الأسد في السلطة، وضرورة رحليه.
“تعود جذور التأييد المصري للتدخل العسكري الروسي في سوريا إلى الزيارة التي قام بها عبد الفتاح السيسي إلى موسكو، بعد التوتر الذي شهدته العلاقات المصرية الأميركية على خلفية انتقاد واشنطن عزل الرئيس السابق محمد مرسي في 2013، وما تلاه من أحداث”
وتكلل تغيير مواقف بعض الدول العربية في نجاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بجمع كل من العاهل الأردني الملك عبد الله، وولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ورئيس مصر عبد الفتاح السيسي، للمشاركة في عرض جوي عسكري في موسكو في أغسطس/آب الماضي.
اللاعبون الأساسيون
ولا شك أن إيران هي أحد اللاعبين الأساسيين في المحور الداعم للنظام السوري، وترى في التدخل العسكري الروسي تحجيما لدورها في سوريا، لكنها لن تتوقف عن دعمها الثابت -منذ البداية- للأسد ونظامه بكل إمكانياتها العسكرية عبر مليشيات الحرس الثوري وحزب الله اللبناني والمليشيات العراقية والأفغانية وسواها، وعبر رفضها أي حل سياسي أو اتفاق يفضي إلى رحيل الأسد.
ويعي نظام الملالي في إيران أن روسيا تريد قبل كل شيء الحفاظ على مصالحها الحيوية في المنطقة العربية، التي تشكل سوريا مركز ثقلها، فيما يطمح هو إلى تحويل سوريا إلى المحافظة الخامسة والثلاثين لها، حسبما صرح في بداية الأزمة السورية أحد المسؤولين الإيرانيين.
ولا يمكن تجاهل وجود رابط ما، بين التدخل الروسي والدور الإيراني المليشيوي في سوريا، غير المرضي عنه من طرف موسكو، حيث تتصرف إيران في سوريا وكأنها قوة احتلال، وصاحبة القرار، وجسد ذلك تفاوض ضباطها على تفريغ منطقة الزبداني، وفاوضوا قبل ذلك على إفراغ حمص القديمة، فضلا عن عمليات شراء العقارات التي تقوم بها طهران في دمشق وغيرها لتغيير التركيبة الاجتماعية والديمغرافية في سوريا، بعد أن هجر أكثر من نصف سكان سوريا من بيوتهم ومدنهم وقراهم، وتدفق اللاجئون بالملايين وهم من السنة تحديدا.
أما تركيا، فقد فرض التدخل العسكري الروسي في سوريا تحديات جديدة عليها، وبات القادة الأتراك في موقف لا يحسدون عليه، حيث وجدوا أنفسهم أمام إرهاصات جديدة، تضاف إلى إرهاصات الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من أربع سنوات ونصف، بما يعقد حساباتهم الصعبة أصلا في المسألة السورية.
واستدعت المتغيرات الجديدة تحركات دبلوماسية تركية لكل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، زادت وتيرتها في الآونة الأخيرة، تعبيرا عن القلق المتزايد الذي تشعر به القيادة التركية إزاء التطورات التي تعيشها المنطقة والمستقبل الذي ينتظرها.
وأعلن القادة الأتراك معارضتهم الشديدة للتدخل العسكري، وفي مقدمتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي قال صراحة إن التدخل العسكري الروسي في سوريا غير مقبول، بل ووصفه بالخطأ الإستراتيجي.
وجاء الرد الروسي في صيغة عسكرية، حيث انتهكت المقاتلات الروسية المجال الجوي التركي أكثر من مرة، وتحرشت بالمقاتلات التركية، التي تقوم بطلعات روتينية يومية على طول الحدود مع سوريا.
غير أن عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (ناتو) تمثل عامل قوة لتركيا تجاه تجاوزات موسكو العسكرية في سوريا، وأنقرة واعية جدا لهذا العامل الهام، حيث إن الحلف لم يتوان في إعلان وقوفه إلى جانبها، وبالتالي من المستبعد حدوث حرب بين روسيا وتركيا، فموسكو لن تتجاوز حدودها التي تدركها جيدا، وبالمقابل لن تجر أنقرة حلف الناتو إلى مواجهة مع موسكو بالنظر إلى الكلفة الباهظة لأي مواجهة بينهما.
“سيذكر التاريخ أن ساسة موسكو يرتكبون في أيامنا هذه خطأ جسيما بالضلوع في حرب إلى جانب نظام يشن حرب إبادة ضد غالبية السوريين، وتحولوا بذلك إلى قوة احتلال أجنبية ومعتدية، في نظر غالبية السوريين والعرب والأتراك”
الحلفاء الجدد
لا شك أن روسيا استطاعت أن تفرض وجودها العسكري في سوريا، ودخولها في حرب إلى جانب النظام كأمر واقع، سلمت به الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا الغربية، ونال تأييد بعض الدول العربية، حيث إن الجامعة العربية التزمت الصمت المطبق منذ بدء الغارات الجوية الروسية في سوريا، فيما يسود الترقب الشارع العربي في ظل الخلافات بين دول المنطقة حول الأزمة السورية.
وراحت موسكو إلى أبعد من ذلك، حيث بدأت بإنشاء حلف استخباراتي رباعي مع كل من العراق وإيران والنظام السوري، وربما ستلتحق به دول عربية أخرى، وذلك كي تواجه التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، الذي سرعان ما أخلى الأجواء السورية أمام المقاتلات الروسية وقاذفات القنابل والصواريخ، كي تضرب مناطق ومواقع المعارضة التي يصفها الغرب بـ”المعتدلة”.
وبات خبراء في السياسة ومراقبون يتحدثون عن حلفاء روسيا الجدد، (العراق، والإمارات، والأردن، ومصر) وهناك حليف خامس هو إسرائيل، التي سارع رئيس وزرائها إلى زيارة موسكو للتنسيق العسكري والاستخباراتي معها، وبالتالي زادت متانة العلاقة بين نتنياهو وبوتين لتصل إلى مرتبة الحلفاء.
وأصبح الحلف الروسي الجديد في منطقة الشرق الأوسط سداسيا بإضافة إيران، التي فتحت أجواءها للطيران الروسي، وتحملت عبء سقوط الصواريخ الروسية على أراضيها، وتحديدا الصواريخ التي تطلقها البوارج الروسية من بحر قزوين، في خطوة استعراضية، تنقصها الدقة في الوصول إلى الهدف بالنظر إلى التخلف التقني والتكنولوجي لمثل هذه الصواريخ الروسية.
يبقى أن التاريخ سيذكر أن ساسة موسكو يرتكبون في أيامنا هذه خطأ جسيما بالضلوع في حرب إلى جانب نظام يشن حرب إبادة ضد غالبية السوريين، وتحولوا بذلك إلى قوة احتلال أجنبية ومعتدية، في نظر غالبية السوريين والعرب والأتراك.
ويبدو أن ساسة موسكو لم يتعلموا دروسا في حروبهم بكل من أفغانستان والشيشان وغيرهما، ولن تنفعهما مباركة الكنسية الأرثوذكسية الروسية، واعتبارها حرب بوتين في سوريا مقدسة، وهي أبعد ما تكون عن ذلك باعتبارها حربا عدوانية.
عمر كوش
الجزيرة نت