تؤكد كل المؤشرات عن مشاركة الناخبين المصريين في الانتخابات النيابية الأخيرة إلى التراجع الكبير وغير المتوقع في نسب المشاركة بالمقارنة مع انتخابات عام 2012 (التي بلغت 54 في المئة) والانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز بها الرئيس عبدالفتاح السيسي (47.5 في المئة)، بينما قد تدور نسبة المشاركة في الانتخابات الحالية حول الـ30 في المئة من إجمالي الناخبين.
أجريت الانتخابات في المرحلة الأولى في 14 محافظة تضم 27 مليون ناخب. وتنطلق المرحلة الثانية والمقررة في 22 و23 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل في 13 محافظة تضم 28 مليون ناخب. ويتكون برلمان مصر، أكبر بلد عربي (88 مليون نسمة) من 596 مقعداً، ويجري انتخاب 448 نائباً وفق النظام الفردي و120 نائباً وفق نظام القوائم المغلقة، فيما سيختار الرئيس السيسي 28 نائباً.
من الصعب تفسير سلوك تصويت المصريين في هذه الانتخابات، لأن هناك مجموعة من العوامل المتداخلة التي يمكن أن نفسر بها عدم حماستهم للتصويت في انتخابات البرلمان، وهذه العوامل لا علاقة قوية لها بدعوة «الإخوان» غير المؤثرة أو بعض الحركات الشبابية لمقاطعة الانتخابات، أو بشعبية السيسي وحكومته. ومن غير المقبول تأويل ما حدث وتوظيفه أيديولوجياً أو سياسياً لخدمة «الإخوان» أو أي فصيل معارض للنظام، فالمؤكد أن هناك أسباباً أخرى أكبر من المعارضة والحكم، لعل أهمها:
أولاً: عدم وضوح الرؤية في ما يتعلق بطبيعة النظام السياسي، والعلاقة بين السلطات ودور المعارضة فيها، وحقيقة التحول الديموقراطي في مصر. في هذا السياق تأخر إجراء الانتخابات البرلمانية لأكثر من عام نصف، وهي الاستحقاق الأخير في خريطة الطريق، حيث تضاربت المواعيد والترتيبات نتيجة مخاوف من الطعن بعدم دستورية قانون الانتخاب والإجراءات المكملة له، كما تنافست الأحزاب القديمة والجديدة في الإعلان عن تأييدها للرئيس، وغابت أو غُيبت السياسة وبرز نواب الخدمات المستندون إلى المال السياسي أو العصبيات والأسر الكبيرة والقبائل في بعض المناطق.
ثانياً: التضييق على المجال العام من جوانب عدة أهمها غياب التنوع في الإعلام والسياسة برغم تعدد الأحزاب والمنابر الإعلامية، وتعرض عشرات النشطاء السياسيين من رموز الثورة للسجن لمخالفتهم قانون التظاهر، علاوة على التشهير برموز أخرى واتهامها بالعمالة للخارج، ما دفع إلى اختفاء عشرات الحركات والائتلافات الشبابية، وبالتالي خسر الحراك السياسي اهتمام وقوة الشباب، ويلاحظ هنا الاختفاء الكبير للشباب من لجان الانتخابات، وهو امتداد لظاهرة عزوف الشباب عن التصويت في الاستفتاء على الدستور والانتخابات الرئاسية، ما يتطلب جهوداً حقيقية لتجسير الفجوة بين الشباب وإدماجهم ضمن مؤسسات النظام السياسي.
ثالثاً: قصور قانون الانتخابات من زوايا عدة أهمها إضعاف الأحزاب، حيث منح الأفراد المستقلين حقوقاً مساوية للأحزاب في التنافس على 448 مقعداً، واعتماد نظام للانتخاب بالقوائم يقوم على الغالبية المطلقة (50 في المئة+1) بحيث أن القائمة التي تفوز بثلاثة ملايين صوت تخسر ولا تمثل بنائب واحد لو فازت عليها قائمة منافسة بثلاثة ملايين وصوت واحد، كما وضعت لجنة الانتخابات شروطاً خاصة بتمويل الحملات الانتخابية وإنفاق الدعاية تحيزت فيها لصالح الأثرياء والأحزاب الكبيرة (الحد الأقصى للدعاية الانتخابية 60 ألف دولار للمرشح، وللقائمة الحزبية مليون دولار) وشرعنة حضور وتأثير المال السياسي، ما دفع بعض الرموز السياسية والشخصيات العامة إلى الإحجام عن خوض الانتخابات.
رابعاً: عدم قدرة النخبة السياسية على تجديد نفسها، فقد اعتمدت الأحزاب القديمة والجديدة على طرق وأساليب العمل الجماهيري الموروثة من عصر مبارك، وتعمد عناصر الحزب الوطني (الفلول) العودة بقوة وفي شكل ثأري من ثورة 25 كانون الثاني (يناير) ورموزها، ومن ثم روَّجوا لمقولة أنها مؤامرة، بينما 30 حزيران (يونيو) هي الثورة الحقيقية، كما ترشح نحو ألفي عنصر من الفلول في الانتخابات البرلمانية، والمفارقة أن بعض الأحزاب والقوائم الانتخابية استعانت بنواب سابقين من الحزب الوطني، بما في ذلك قائمة «في حب مصر» القريبة من الحكومة والمرجح أن تفوز بكل المقاعد المخصصة للقوائم! وتضم هذه القائمة رجال دولة سابقين من أنصار الرئيس وعدداً من ممثلي الأحزاب الكبيرة. والحقيقة أن قانون الانتخابات وتقسيم الدوائر يمنح نواب الحزب الوطني السابقين ميزات تنافسية لأن غالبيتهم تستند إلى عائلات كبيرة كما أن لديهم خبرات في خوض الانتخابات وشراء الولاءات بطرق مختلفة. القصد أن الناخب العادي لا يشعر بأن هناك جديداً تقدمه له الانتخابات الحالية فالوجوه القديمة تعيد إنتاج نفسها وتحاول أيضاً إعادة إنتاج نظام مبارك.
خامساً: شعور قطاعات واسعة من المصريين بعدم جدوى المشاركة في الانتخابات، فقد تبدد الأمل في إمكانية التغيير وإصلاح الأحوال المعيشية من خلال صندوق الاقتراع، حيث شارك المصريون بعد ثورة 2011 الناقصة في ثلاثة استفتاءات على الدستور، وثلاثة انتخابات برلمانية، وانتخبوا رئيسين، ومع ذلك لم يخرج الاقتصاد من أزمته، أو يشعر المواطنون بحلحلة لمشكلات البطالة والغلاء وتدهور الخدمات، ما يعني أن هناك حاجة حقيقية لتجديد ثقة الغالبية في وجود علاقة بين المشاركة السياسية وتحسين الأوضاع المعيشية، وهو الدور المفقود الذي يتعين أن تقوم به الحكومة والأحزاب ووسائل الإعلام.
سادساً: وجود قطاع محسوس ومؤثر من المواطنين يكتفي بوجود الرئيس السيسي ويراهن عليه كبطل منقذ، وبالتالي ربما يكون هؤلاء قد اختزلوا الفعل السياسي إلى مجرد تأييد الرئيس، وعدم الاهتمام بالبرلمان، لا سيما أن هناك مخاوف أطلقها البعض من مخاطر صدام البرلمان مع الرئيس، وضرورة تعديل الدستور للحد من صلاحيات البرلمان، ما يرجح أن هناك من يرى عدم جدوى وجود البرلمان. والواقع أن هذا التفسير يعتمد على بعض المنطق لكنه يتعارض مع دعوة الرئيس السيسي للشعب للمشاركة في الانتخابات، من أجل المشاركة في صناعة المستقبل والحفاظ على صورة مصر أمام العالم الخارجي.
الأسباب الستة السابقة قد تساعد في تفسير عزوف المصريين عن التصويت في المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية، لكن تبقى المرحلة الثانية والتي يمكن أن لا تسجل أيضاً التحسن المطلوب في نسب المشاركة، حيث ستُجرى في القاهرة وعدد من مدن الدلتا، ومعروف أن نسب المشاركة تقل في المدن مقارنة بالصعيد وريف مصر، حيث تلعب الروابط العائلية والجهوية دوراً في تحسين نسب المشاركة في الانتخابات. والخوف الآن أن يؤدي ضعف نسب المشاركة إلى زيادة فرص السلفيين ورأس المال السياسي في مقاعد البرلمان، لأن السلفيين كأقلية منظمة قادرون على الحشد وتشكيل ثقل انتخابي عندما تتراجع أعداد المقترعين، كذلك ترتفع فرص نواب المال السياسي في شراء الأصوات والتأثير في الدوائر الانتخابية في المناطق الفقيرة.
لكن الخوف الأكبر هو من تشكيل برلمان ضعيف مطعون في شرعيته، فمن الصعب الثقة في برلمان انتخبه رُبع المصريين، وهو ما يضرب فكرة التمثيل البرلماني ويجردها من مضمونها الحقيقي، ومن غير المعقول أن يجرؤ برلمان بهذه الشرعية على تحدي الحكومة أو الرئيس. باختصار سيكون لمصر برلمان لا يمثل غالبية الناخبين، أو التيارات والأحزاب السياسية كافة، وسيكون مطعوناً دائماً في شرعيته، ما يجعله برلماناً مستأنساً، قد يغير من الدستور ليتنازل عن بعض سلطاته لمصلحة سلطات الرئيس والحكومة كما أعلن بعض نوابه الذين فازوا في الجولة الانتخابية الأخيرة، وهنا تبرز إشكالية هل يمكن أن تنجح مصر في إنجاز تحول ديموقراطي وتنمية حقيقية من دون وجود برلمان قوى ومعارضة مؤثرة من داخل البرلمان، وهل ترضى غالبية المصريين بخاصة الشباب بهذه الوضعية الغريبة أم يتحركون خارج أطر النظام السياسي؟
من الأفضل أن ينتبه الحكم لهذه المخاطر ويحاول البحث عن مخرج، لأن مسار الانتخابات البرلمانية ونسب المشاركة ونتائجها قد تهدد الاستقرار، خصوصاً أنها تتزامن مع استمرار موجات الغلاء وعدم القدرة على مواجهة الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعانيها مصر.