غيّر التغير المناخي المتسارع أنماط حياة الناس فنزحوا وغادروا أماكن عيشهم بفعل الجفاف أو الحرارة والعواصف والفيضانات، وحتى من اعتادوا التنقل متبعين مواشيهم فقد أنهى ترحالهم وأجبرهم على البحث عن مستقر لهم كما فعل بدو تركيا الذين كانوا يتحولون من منطقة إلى أخرى حيث يتوفر العشب والماء.
الأناضول (تركيا) – استيقظ محمد وعائلته مع بزوغ الفجر، وشربوا الشاي الأسود الحلو قبل أن يفككوا الخيمة التي يتشاركونها لينطلقوا عبر المراعي في وسط الأناضول.
العائلة هي من اليوروك، وهم شعب رحل يرعون حيواناتهم على الأرض التي أصبحت جزءا من تركيا منذ أكثر من ألف عام.
ويقول أعضاء من مجتمع اليوروك إن 150 عائلة بدوية فقط باقية اليوم، مقارنة بألف عائلة تجوب المنطقة منذ 50 عاما.
ويخشى محمد وعائلته أن يكونوا من بين الأخيرين، حيث أن الكفاح من أجل العثور على المياه، والارتفاع الحاد في النزاعات على الأراضي، والافتقار إلى الحماية القانونية لضمان أسلوب حياتهم قد تجبر الأجيال القادمة على الاستقرار.
وقال محمد الذي طلب عدم ذكر لقبه “بالنسبة إلى أشخاص مثلنا، إذا عشنا في قرية فلن تكون هناك فرص عمل، لكن الحياة الجبلية ستنتهي. نحن بائسون، لكن لا أحد يهتمّ بنا”.
ويقضي اليوروك نصف العام في الهضاب الجبلية الأكثر برودة في وسط الأناضول والنصف الآخر على الساحل المعتدل.
وفي كل سنة يسافر محمد وزوجته كزبان وأطفالهما الثلاثة مسافة 600 كيلومتر بين مدينة مرسين الساحلية الجنوبية والسهول حول قونية، وهي مدينة تقع جنوب العاصمة أنقرة، ويعيشون على بيع ماشيتهم والجبن والزبادي في أسواق القرية.
وتغيرت أنماط هجرتهم بالفعل، حيث أدت سنوات متتالية من انخفاض هطول الأمطار الذي يعزوه العلماء إلى تغير المناخ إلى جفاف الأنهار والبحيرات والمياه الجوفية التي يعتمد عليها شعب اليوروك خلال رحلاتهم.
وقال محمد “هناك القليل من المياه الآن (..) لم تمطر كثيرا هذا العام، لكن التحدي الأصعب الذي نواجهه هو مع المختارين (عُمَد القرى)”، موضحا أنه خلال السنوات الأخيرة زاد العمد من مصاعب عبور العائلات البدوية عبر قراهم ومن تكلفتها.
وفي كل هجرة تحصل هذه المجتمعات على إذن من وزارة الزراعة والغابات لنقل حيواناتها عبر الأراضي العامة.
ولكن للسفر عبر أرض خاصة تحتاج العائلات إلى مباركة مختار القرية الذي يطلب في كثير من الأحيان من العائلات دفع عطاء. وترتفع المعدلات باستمرار على حد قول محمد.
ونتيجة لذلك لم يعد بعض البدو قادرين على الهجرة إلى مراعيهم الصيفية، مما يعني أنهم مجبرون على الاستقرار، وفي كثير من الحالات، يضطرون إلى بيع ماشيتهم لكسب ما يكفي لإطعام أسرهم.
وغالبا ما يواجه أولئك الذين يمكنهم الدفع لمواصلة رحلاتهم ضباط الدرك، أو القوات شبه العسكرية التركية، أو السكان المحليين الغاضبين الذين يتهمون مواشي الرعاة بأكل محاصيلهم ودوسها.
وقال محمد من نقطة على بعد 120 كيلومترا جنوب قونية “القرويون لا يريدوننا. يقول الدرك ‘لا يمكنكم المجيء’، لكن دون تقديم أسباب”.
ورفع وثيقة منحته إياها قوات الدرك في وقت سابق طلبت فيها من العائلة المضي قدما. وقال إن الضباط الذين زاروا الأسرة قبل أيام قليلة مزقوا حتى وثائق تصاريح الهجرة التي حصل عليها من وزارة الزراعة.
انخفاض هطول الأمطار وجفاف الأنهار والبحيرات والمياه الجوفية التي يعتمد عليها سكان اليوروك يغيران نمط هجرتهم
وقالت إدارة الاتصالات التركية إنه ليس لديها “ما تضيفه” عند الاتصال بها بشأن مزاعم العائلة.
وقال مكتب محافظ أهيرلي، إحدى البلدات الواقعة على طريق الهجرة، إنهم لا يتقاضون رسوما على البدو ولا يعرقلون هجرتهم. ورفض عدد من المسؤولين في بلدات أخرى على الطريق التعليق.
وقال إنجين يلماز مدير مبادرة يولدا وهي مجموعة الحفاظ على البيئة ومقرها أنقرة، إن المراعي الطبيعية في تركيا قد تراجعت بنحو 70 في المئة على مدار الأعوام الستين الماضية بسبب مزيج من الجفاف وانتشار الزراعة والتنمية غير المضبوطة.
وهذا يعني أن البدو يضطرون بشكل متزايد إلى المرور عبر أنواع أخرى من الأراضي، بما في ذلك تلك المستخدمة للزراعة.
وقال يلماز إن البدو في جميع أنحاء العالم يُتهمون بالتسبب في تدهور المراعي، لكن فقدان الأراضي عادة ما يكون أكثر بسبب سوء الإدارة الحكومية.
وتفاقمت التوترات بين البدو والمجتمعات الريفية بسبب الأزمة الاقتصادية الحالية في تركيا، حيث وصلت الليرة إلى مستويات منخفضة قياسية مقابل الدولار على مدى السنوات الثلاث الماضية، وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنحو 20 في المئة سنويا.
وصرّح يلماز “عندما يكون الاقتصاد فظيعا بالفعل تتصاعد التوترات ويؤثر ذلك على البدو”، مضيفا أنه من منظور بيئي، فإن الرعي مفيد للأرض، ويساعد على التنوع البيولوجي من خلال نشر البذور حولها والحفاظ على صحة الأنظمة البيئية.
وقال طارق بيهان، مدير الحملات والاتصال في منظمة العفو الدولية في تركيا، إنه من أجل إنقاذ نمط حياة اليوروك من الاختفاء يجب على الحكومة حماية ثقافتهم مع ضمان تمتعهم بنفس الحقوق مثل جميع الأتراك الآخرين.
وأضاف في تعليقات عبر البريد الإلكتروني “جميع مجتمعات البدو حول العالم معرضة للتهميش والإقصاء. ويجب على السلطات أن تتبنى وتنفذ سياسات لتحسين الظروف المعيشية للرحل”.
وعلى عكس بعض اليوروك الذين اختاروا الاستقرار جزئيا على الأقل، تعيش عائلة محمد في خيمة على مدار السنة.
التوترات بين البدو والمجتمعات الريفية تفاقمت بسبب الأزمة الاقتصادية الحالية في تركيا مما تسبب بارتفاع أسعار المواد الغذائية
ويعني غياب عنوان دائم للأسرة أن وصولها إلى الخدمات الاجتماعية مثل الرعاية الصحية والتعليم محدود.
وعندما سُئل ابن محمد وابنتاه (تتراوح أعمارهم بين 11 و16 عاما) عما إذا كانوا يريدون الاستمرار في أن يكونوا من البدو عندما يكبرون، قال الصبي وحده نعم.
وقالت عائشة هلال، عالمة الأنثروبولوجيا بجامعة يديتبه، إن القيم التقليدية في المجتمع وعدم الرغبة في إرسال الفتيات إلى التعليم العالي يعنيان أن العثور على عمل قد يكون صعبا على الفتيات إذا اخترن الاستقرار.
ولا يتلقى للأطفال تعليما رسميا بل يتابعون بدلا من ذلك دروسا باستخدام هواتفهم عندما تسمح لهم الظروف بذلك.
وقالت هلال إن نساء اليوروك وفتياتهم يقمن بكل أعمال الطهي والتنظيف والذهاب مع الحيوانات إلى المراعي الجديدة كل يوم، مما يعني أنهن يمتلكن مهارات أقل يمكن استغلالها مثل السياقة، وسوف يتأثرن بشكل غير متناسب بفقدان أسلوب حياتهن.
وأضافت “يرتبط العمل الذي تقوم به نساء اليوروك في الغالب بداخل الخيمة ومحيطها، بينما يهتم الرجال بوظائف غير الخيام. هناك بنية أبوية في حياة البدو تدفع النساء إلى المرتبة الثانية في المجتمع”.
العرب