أفهم أن تكون أمريكا ودول أخرى في الغرب منزعجة من التدخل العسكري الروسي في سوريا، ولكني لا أفهم أن تكون مندهشة. لقد حاول الغرب على امتداد السنوات الماضية، وبخاصة السنوات التي أعقبت مباشرة انهيار الاتحاد السوفييتي، تغيير قواعد السياسة في روسيا وتغيير مؤسساتها وبنيتها الاجتماعية وتغيير رؤية الشعب الروسي لدور روسيا في العالم. حاول الغرب وأنفق أموالاً طائلة، وكلها محاولات وأموال، لم تثمر سوى الفشل.
تمردت روسيا على الغرب وباشر فلاديمير بوتين وجماعته مهمة تحديث المؤسسات الروسية، وإعادة تشكيل الوعي الوطني معتمداً على الدور البناء الذي تعهدت الكنيسة التزامه، واستعادة ثقة الناس والعسكريين بخاصة في المؤسسة العسكرية التي خرجت من حرب أفغانستان منكسرة النفس ومنكسة الرأس.
لم يكن خافياً على العواصم الغربية أن حلم الإمبراطورية الروسية سوف يبقى حياً لفترة طويلة في بنية إنسان روسيا ، ويستمر هاجساً في بنية السياسات الخارجية لدول الغرب. لذلك ركز الغرب بالضغوط الثنائية وبضغوط حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي على هدف إضعاف النفوذ الروسي في دول الجوار، والعودة إلى سياسات عزل روسيا عن محيطها مع الحفاظ على حد أدنى من مشاركتها كطرف دولي.
فشل الغرب في إعادة تفصيل دولة روسية على شاكلته أو تابعة له، وإن كان يسجل لصالح الغرب خلق ثم تشجيع طبقة من المغامرين استفادت من مرحلة بيع «الدولة» في عهد الرئيس يلتسين، وهي الطبقة التي قام الرئيس بوتين بتصفية قادتها وإحلال آخرين لتصبح أساس قواعده المالية والاقتصادية، ولتشترك في تمويل عملية تحديث المؤسسات وبرامج الرفاه الاجتماعية، وتكون علامة بارزة من علامات النظام الاقتصادي المختلط الذي اختاره بوتين لروسيا الجديدة.
الغرب الآن مندهش لتدخّل روسيا عسكرياً في سوريا. اندهش أيضاً عندما تدخلت في جورجيا واستعادت شكلاً من أشكال الوجود الدائم على أراضيها، اندهش عندما انتزعت، أو استعادت، شبه جزيرة القرم من السيادة الأوكرانية، واندهش مرة ثالثة عندما تصدت سياسياً و«عسكرياً» لتدخّل الغرب في أوكرانيا.
الغرب مندهش لأنه لم يعترف بعد بفشله في فرض التغيير في روسيا، واستمر يعتقد أن تدخلات موسكو الخارجية استثناءات ارتكبها بوتين تحت ضغط ظروف اقتصادية واجتماعية ولنقص في شعبية الرئيس.
قالوا في الغرب، ويقول بعض العرب أيضاً، في تفسير التدخّل العسكري الروسي في سوريا، إنه جزء من محاولات عديدة تجري لإلهاء الشعب الروسي بعيداً عن مشكلات حياتية تتعقد باستمرار. الحديث الآن يتردد في أجهزة إعلام غربية وعربية أيضا، عن أزمة اقتصادية عنيفة تمسك بخناق نظام الرئيس بوتين بما يحمل معنى الرغبة أو الوهم في أنه قد يتراجع إذا حصل من الدول الغنية على اتفاقات تجارية أو اقتصادية أو مزايا نفطية تخفف من أزمته الداخلية.
قالوا أيضاً، إن وراء التدخل في سوريا حاجة شخصية من جانب الرئيس بوتين لإهانة الرئيس أوباما والولايات المتحدة. يشعر بوتين، حسب رأي هؤلاء، أن أمريكا أهانت روسيا عندما انتهزت فرصة ضعف في مرحلة انتقالية ، فتدخلت لفرض نظام سياسي مختلف وهدم بنية الدولة، وهي دولة كانت حسب عقيدته السياسية والوطنية دولة راسخة وعميقة. قالوا أيضا إن بوتين شعر أكثر من مرة أن أمريكا لا تعامله في المؤتمرات الدولية بالاحترام الذي يستحقه رئيس دولة عظمى، فضلاً عن أن الإعلام الغربي يتعمد تشويه صورته.
قيل كذلك، إن بوتين فعل ما فعله في سوريا لأنه يريد أن يضغط على الولايات المتحدة ودول الغرب لترفع أيديها عن أوكرانيا، وتفك الحصار المفروض على روسيا. يفترض أصحاب هذا القول أن موقع سوريا في حسابات واستراتيجيات الغرب يعادله موقع أوكرانيا في حسابات روسيا واستراتيجيتها. يفترضون أيضاً أن الغرب سوف يساوم روسيا لتخرج من سوريا مقابل أن تعود تهيمن على أوكرانيا. قيل الكثير، وبعضه استنفد وقت وجهد صنّاع القرار وإعلاميين للرد عليه تفنيداً أو استحساناً. نسينا أو تجاهلنا الأسباب المعلنة من جانب الطرف الروسي والظروف على أرض الواقع. تجاهلنا مثلاً التأكيد الروسي بأنهم هناك لأنهم ملتزمون بالدفاع عن حكومة دمشق، وهو الالتزام الذي لم يضعف في أي يوم. هم هناك أيضا لأنهم مثل بقية الأطراف الدولية وشعوب المنطقة يئسوا من عجز الولايات المتحدة والحلف الذي أقامته وتقوده لتقزيم «داعش» وإرغام قادتها على العودة إلى احترام الشرعيات التي صنعتها وأطلقتها.. يسألون، ولهم الحق في السؤال، عن أقصى ما يمكن أن تفعله أمريكا في حالة اعترافها بالعجز والفشل. هل تزيد الأمور تعقيداً كما حدث في أفغانستان والعراق واليمن ، فتتدخل فيما لا تفهم فيه ولا يعنيها؟ هل فكرت أمريكا ودول الغرب، فيما يمكن أن تفعله دول قريبة من سوريا مثل روسيا وتركيا وإيران والخليج ومصر لو رحلت أمريكا وتخلت عن حلفائها في المعارضة السورية ، وتركت الساحة ل«داعش» ومنظمات إرهابية أخرى؟.
عاشت المنطقة لمدة غير قصيرة في حال فراغ قيادة وتوجيه. سمح هذا الفراغ لقوى متطرفة أن تنشأ وتجد من يمولها ويدعمها بل ويشجعها على أن تطلق على نفسها اسم الدولة.. مسؤولية هذا الفراغ تقع حسب الرأي الرسمي في موسكو، على أكثر من طرف. أهم هذه الأطراف على الإطلاق الولايات المتحدة التي ضغطت بشعارات الديمقراطية على حكومات الدول في المنطقة ، فأسقطت بعضها من دون أن تمهد لبديل يملأ الفراغ ويضمن الاستقرار. لم تقتصر الفوضى على دول بعينها، كدول الربيع العربي، بل امتدت وتغلغلت في تفاعلات النظام الإقليمي، حين خرجت دول من هنا وهناك تتدخل عسكرياً وسياسياً وبالمال على أمل، كما تصورت، خلق مستقبل جديد لها وللإقليم، وفشلت. يقول المسؤولون الروس إن الفشل، كان من نصيب كل الأطراف، والدليل هو هذه الصورة «المرتعشة» لنظام إقليمي تصدعت أركانه وأعمدته وتخلى عنه ضميره وتخاصمت حتى تنافرت مكوناته.
لم تكن عفوية إشارة بوتين في خطاب الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى سياسة أمريكا في الشرق الأوسط وبخاصة حين قال «هل تدركون عواقب ما فعلتم». أمريكا فشلت في تسوية الأزمة سلماً أو حرباً. أمريكا فشلت في تدريب المعارضة السورية بعد أن أنفقت نصف مليار دولار عليها، ولم تعلن الفشل إلا بعد أن قررت روسيا التدخّل. أمريكا شجعت حلفاءها فتدخلوا بأساليب غير ناضجة وسياسات متخبطة ما شجع الأسد على جر الشعب إلى مذبحة تحت سمع وبصر العالم. فشلت أيضاً في توصيل السلاح إلى مستحقيه وفشلت في تمويل المعارضة، لم تكسب سوى فساد أغلب عناصرها وتنظيماتها. ورغم هذا الفشل الرهيب الذي بات ينعكس على أوضاع داخلية وتحالفات إقليمية ورغم غياب بديل واضح ما زالت أغلب الدول الحليفة تعارض التدخل الروسي.
وجّهت موسكو أكثر من رسالة إلى الولايات المتحدة وحلفائها من خلال تدخلها العسكري الجوي في سوريا. أهم تلك الرسائل على الإطلاق هي التأكيد على حقيقة قديمة قدم عصر توازن القوى الإمبراطوري ، وهي أن روسيا أقرب من الغرب، وأمريكا بخاصة، إلى إيران وتركيا والعالم العربي وأقاليم وسط آسيا، وأنها تستطيع أن تصل، بكفاءة الحشد السريع والقواعد الجنوبية، في وقت أقصر إلى مناطق الأزمات والصراع. رسالة أخرى دعمها مؤتمر للأمن الإقليمي لدول وسط آسيا عقد قبل أيام قليلة في منتجع بوراياي في كازاخستان، تؤكد الرسالة أن روسيا وهذه الدول تعتقد أن الوضع في أفغانستان يزداد سوءاً وأن «أحد أهم أهداف الإرهابيين اختراق منطقة آسيا الوسطى».
الإرهاب في نظر روسيا وحلفائها الآسيويين قوس يحاول أن يغرس أحد رأسيه في مقاطعة سينكيانغ بغربي الصين والرأس الآخر في القوقاز. إن اقتناع القيادة الروسية وقيادات الصين وغيرهما بخطورة هذا التهديد يجعل من الصعب على هذه القيادات أن تثق في أن تفلح أمريكا وحلفاؤها في القضاء على الإرهاب، وتاريخهم في أفغانستان وباكستان وسوريا والعراق وغيرها شاهد على فشل رهيب.
رسالة روسية أخرى كشفت عنها أحداث الأسابيع الأخيرة تحمل رغبة موسكو في تأكيد أن روسيا صارت لا تقل قدرة عن أمريكا على تشكيل أحلاف دولية وإقليمية. روسيا لديها الآن رصيد ثقة لدى حكومات دول أكثر عدداً منذ أن طرحت مبدأ رفض تدخل أمريكا لنشر الديمقراطية وأفكار النيوليبرالية وتشجيع الشعوب على طلب التغيير. روسيا الآن جزء أصيل في تجمع دولي حول أجندة مختلفة عن أجندة الغرب، بل هي تقود هذا التجمع مع الصين والهند والفاتيكان والبرازيل، أي مع ممثلي أكثر من نصف سكان العالم.
هكذا يرى الروس دورهم في سوريا، ومن ورائها الشرق الأوسط، وآسيا من وراء الشرق الأوسط. وهكذا يرى الغرب وبعض العرب هذا الدور. ما يلفت النظر أن الطرفين يتجاهلان حتى الآن خطورة احتمالات تطور التدخل الخارجي في الأزمة السورية، حين يتحوّل التدخل إلى حرب أوسع وربما حرب باردة جديدة.
يتجاهلان أيضاً، وأقصد طرفي التدخل أي روسيا وإيران من ناحية وأمريكا وإنجلترا ودول أخرى، احتمال التصعيد الأشد خطراً عند الإقدام على إعلان «الجهاد الإسلامي» ضد روسيا وحلفائها، بكل ما يحمله هذا الاحتمال من حروب طائفية تشعل النار وتريق الدم في كل أنحاء الشرق الأوسط قبل أن تصل شراراتها إلى جماهير اللاجئين الجدد في أوروبا والأمريكيتين.
لقد صدرت بالفعل عن عدد من رجال الدين دعوة من هذا القبيل، أظن أن حكومات الإقليم تبرأت من مسؤولية صدورها وإن لم تتبرأ، فالكارثة واقعة لا محال.
هذه ليست أفغانستان الثمانينات، وروس هذه الأيام ليسوا شيوعيين منهكين أو متجمدين، واتهامهم بأنهم وحلفاءهم أعداء بحكم انتمائهم إلى عقيدة سماوية أخرى يفتح الباب أمام حرب أديان، البشرية بأسرها في غنى عنها. ثم أن هذا هو الشرق الأوسط مهد الأديان والطوائف وساحة صراعاتها وحروبها، وأخشى أن يكون ريتشارد هاس وغيره على حق حين حذروا قبل أيام من وقوع عمليات إبادة واسعة في سوريا وخارجها.. لو تمت إطاحة حكومة الأسد قبل أن تتوفر حكومة بديلة جاهزة للحكم.
جميل مطر
صحيفة الخليج