في الأسبوع الماضي وبلا ضجة ولا احتفالات وحتى بلا اهتمام، استذكر العراقيون مرور 100 عام على تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وإذا كانت شعوب الدول التي عاشت عصورا ذهبية، تبقى تُمنّي النفس بالعودة إلى تلك العصور السالفة، فإن الليل الذي أرخى سدوله على العراقيين، أدخل الكثير منهم في دوامة اليأس، وبات انجلاء الوضع الكارثي، الذي هم فيه يكاد يكون ضربا من الخيال. فلم يعد أحدا منهم يُصدّق أن الخليفة هارون الرشيد أهدى ساعة ذهبية إلى شارلمان ملك الفرنجة، التي كانت أحد الأدلة على التقدم العلمي الذي وصلت إليه بغداد آنذاك، بعد أن باتت هذه الحاضرة العربية خرابا.
كما لم تمر في ذهن أحد منهم صورة جحافل الدارسين القادمين من شتى أصقاع الدنيا، كي ينهلوا من العلم في مدارس بغداد والبصرة والكوفة، بل حتى الممارسات الحداثية التي مرت على العراق في العصر الحديث، والتي ما زالت طرية في الذاكرة، تدافعت معها صور البؤس والشقاء، وأركنتها في عتمة النسيان. فمن يقول إن العراق قد حقق في عقدي السبعينيات والثمانينيات طفرة في النظام التعليمي والنظام الصحي، وفي البنى التحتية، سوف يجدهم، من يحدثهم، فاغري الأفواه تعلو وجوههم علامات التعجب، أو عدم التصديق أحيانا.
والحق أن كل ذلك متوقع ومفهوم، لأن ما مرّ به البلد، خلال ما يقارب العقدين من الزمن، منذ عام 2003 وحتى اليوم، قد ران على الأفئدة، وقطع الصلة ما بين الماضي والحاضر، وبات إيمان أهل هذه الأرض بالمستقبل شيء عبثي لا معنى له. كذلك جعل الحاضر وكل مآسيه ليس مرحلة زمنية، لا بد أنها ستمر، بل هوية عراقية يحملها كل من يعيش على هذه الجغرافيا، يصعب الفكاك منها، وكأنها سمة أو ملمح من ملامح وجوه العراقيين، أو بصمة وراثية مرسومة في الـ» دي أن أي». فمن يسير في شوارع بغداد اليوم، أو أية محافظة عراقية، يجد أنه ليست الحضارة والحداثة قد أفلتتا فيها وحسب، بل حتى الحياة لم تعد تنبض فيها بانتظام، كما كانت قبل وقت قريب.. شوارع يسودها اللاقانون وأرصفتها مهدمة، والعسكرة فيها واضحة، من خلال مئات العناصر المدججين بمختلف أنواع الأسلحة والعجلات المدرعة، وبناياتها تعلوها رايات مذهبية سوداء وخضراء وحمراء، وجدران تحمل آلاف الصور لرجال جدليين قضوا نحبهم، بعضهم إيرانيون وآخرون إيرانيو الرأي والهوى والعقيدة، يشار إليهم باللغتين العربية والفارسية، على أنهم شهداء. فهنا صورة قاسم سليماني يُقبّل رأس أبو مهدي المهندس، وهناك صورة أبو مهدي المهندس يحتضن قاسم سليماني. في حين أن مشروع الرجلين لا علاقة له بالعراق لا من بعيد ولا من قريب، بل هو مشروع إيراني يخدم دولة الجوار. وإن عبرت جسور بغداد فلن تجد نهر دجلة يسير بكبرياء بين الرصافة والكرخ، فقد قطعت أوصاله عشرات الجُزر وملأت ضفافه أكداس القمامة، وغاب ذاك السحر الذي كان يدفع العراقيين للسهر على ضفافه حتى الفجر. أما أحياء بغداد القديمة فقد اختفى من أزقتها عبق الماضي، فالهموم الحياتية والمعيشية هي الشغل الشاغل للناس. كما دب الصخب والعشوائية أسواقها المعروفة، بعد أن استولى البعض على أرصفتها، وجعلوا منها أماكن يعرضون فيها بضاعتهم، في ظل غياب تام للرقابة والخدمات، وحتى الذوق الذي عرفته أسواق بغداد.
الساسة الذي يقودون العراق حاليا تعمدوا الخلط بين التدين والسياسات الفاشلة التي ينتهجونها، لتدعيم مكانتهم السياسية
وفي الوضع السياسي الذي يستقبل فيه العراق مئويته الثانية، فيبدو أنه استمرار لما انتهت إليه المئوية الأولى. ففي ظل هذه الطبقة السياسية الفاسدة، يمكن القول إن البلد والدولة خارج الخدمة، فعلى الرغم من أن إحصاء الخسائر منذ عام 2003 وحتى اليوم يرسم صورة كارثية، لكننا أمام حالة إصرار على عدم وضع تخطيط لاستراتيجية الخروج، لا محليا ولا دوليا أيضا، في حين أن الهياكل المتعثرة للدولة وتناقضاتها موجودة ويراها الجميع، هذا يعطي دليلا واضحا على أن العراق سيبقى على المدى القريب ورقة بيد البعض، ومسرح تصفية حسابات للبعض الآخر، وربما جائزة ترضية لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك، وإذا كان هنالك من يقول بأن ما يجري في هذا البلد إنما هو أزمة نظام وحسب، فالسؤال المنطقي هو هل فعلا يوجد نظام؟ فإذا كان النظام في علم السياسة هو الذي يوزع السلطة والثروة، ويخلق آلية لحل المشاكل، فمعنى ذلك عدم وجود نظام في العراق أصلا، لان السلطة غير شرعية والثروة مسروقة، وآلية حل المشاكل غير موجودة. لكن الحقيقة الراسخة هو أن هنالك شبه نظام فُرض على العراقيين من قبل قوة عظمى، وأنه يعاني من فقدان الشرعية إلى اليوم، على الرغم من المحاولات اليائسة لإضفائها عليه بانتخابات مزورة وآليات مُحرّفة. ولعل إحدى وسائل إضفاء الشرعية التي يمارسها المجتمع الدولي اليوم، هي تلميع رئيس الوزراء الحالي وجعله نابليون العراق، في حين أن الرجل ما زال يثبت يوميا أنه أبعد ما يكون عن تحمل المسؤولية، ففي حديثه مع العراقيين عن المناسبة يعود إلى طريقة الاقوال بلا أفعال حين يقول (لن نسمح بمس أمنكم واستقراركم) وقبل بضعة أسابيع جرت مذبحة المقدادية في ديالى، ولم يحرك ساكنا، بل تجاهلها إلى حد الإنكار. كما يقول إن (اللادولة هي خيانة لأنفسنا أولا وللأجيال القادمة من بعدنا) بينما لم يقل ماذا فعل طوال عام ونصف العام، كي يضمن للناس عودة الدولة، ولماذا هو لحد الآن يتربع على عرش اللادولة. وأخيرا يقول (ٍآن الأوان أن ننظر إلى دولتنا بموضوعية، وأن نفتخر بمنجزاتها) فهل يمتلك الشجاعة الكافية كي يقول لنا ماهي المنجزات التي تحققت كي يفخر بها العراقيون معه؟
إن العراق الذي يتجه الى المئوية الثانية، إنما تواجه شعبه عاصفة مثالية في ظل غياب تام للدولة.. وضع اقتصادي سيئ، في ظل حالة فساد كارثية، تهميش وإقصاء وتغييب وقتل، أمية وبطالة وفقدان أبسط حقوق الإنسان، وميليشيات وعصابات مسلحة تحتكر البلد وشعبه، وتضع مصيرهم في غياهب المجهول، وإذا كانت الإرادة البشرية قادرة على استثمار مآسيها، عقدها، صعوباتها، وتحولها إلى منجز إبداعي من نوع ما، لكن في ظل السلطة الحالية يصبح السؤال منطقيا، كيف يمكن ذلك؟ خاصة أن الساسة الذي يقودون البلد حاليا تعمدوا الخلط بين التدين والسياسات الفاشلة التي ينتهجونها، لتدعيم مكانتهم السياسية بضمانات دينية، تم ضبطها بدقة لتناسب آذان البسطاء من الناس. ومع الخلل الوظيفي السياسي والفشل الذريع في إدارة الأزمات، فإن نطاق الحديث عن إصلاح أي شيء يكون معدوما في العراق. إن الإطار الفكري الذي يخضع له البلد الآن، وسيستمر معه في المئوية الثانية يمكن اختصاره بثلاث دوائر، دولية، إقليمية، ومحلية. تضغط الدولية على الإقليمية، وتضغط الإقليمية على المحلية، وهكذا يتكرر هذا النمط من السلوك السياسي، فينتج عنه كوارث سياسية واجتماعية وأمنية واقتصادية وفكرية، يدفع ثمنها شعبنا دماء ومستقبلا.
القدس العربي