“كلنا مرتشون” قالها نائب عراقي سابق لا يزال حتى هذه اللحظة يتحدث باسم مكون طائفي وكأنه مفوض لتمثيل ذلك المكون إلى الأبد.
ولأن النائب في العراق يخدم أربع سنوات ثم ينال راتبا تقاعديا مريحا إلى نهاية حياته فإنه لا يشبه مثيله في أيّ مكان من الأرض ويحق له أن يفعل ما يشاء في ظل حصانة أبدية يجهزها به نظام قائم على الاستقواء بالسلاح الشرعي وغير الشرعي وبالمال العام في مواجهة أصحاب ذلك المال مسلوبي الإرادة الواقعين تحت تأثير التهديد بوقوع حرب أهلية جديدة.
ذلك نوع صغير من أنواع الفساد الذي سُنت من أجله القوانين في دولة تم اختراعها على أنقاض دولة حطمها الأميركان بتهمة زائفة وسلّموها إلى إيران التي يتفاوضون الآن معها على امتلاك سلاح سبق لهم أن اتخذوا من شبهات امتلاكه سببا لتدمير العراق.
الفاسد إذا ما تم استضعافه من قبل طرف ما وتمت التضحية به من قبل الطرف الذي ينتمي إليه لن يُلقى القبض عليه مباشرة، بل يُعطى مهلة تمكنه من الهرب
حكاية مأساوية لو جرى تفكيك تفاصيلها على مهل لكانت الحقيقة التي أفصح عنها النائب السابق جزءا من سياق طبيعي أراد من خلاله الأميركان أن يضعوا البلد الذي اقتلعوه من جذوره التاريخية على الطريق التي تشهد موت دولة لن ترى انبعاثا جديدا لها في وقت منظور. تلك خلاصة لا يود المتفائلون ممَن لا يرغبون في الاعتراف بأنهم فقدوا وطنهم إلى الأبد التسليم بها.
فالمطلوب أن يقال “لا يزال هناك أمل” ذلك سبب مقنع للاستمرار في العيش في بلد، كل ما فيه يخاطبك بلا جدوى العيش ويضيق عليك الخناق من كل الجهات لكي تغادره حتى لو كان قارب مطاطي هو وسيلة ذلك الهروب. ما لم يدمره المحتل الأميركي دمره الفساد. فساد الأحزاب الذي صار عادة اجتماعية يطمح الكثيرون في المشاركة فيها وبأي حصة كانت وعلى أي مستوى.
ومهما فعل العراقيون فإنهم لن ينجحوا في الخروج من البئر العميقة التي تم رميهم فيها وقاموا بعد ذلك بتعميقها بأنفسهم بعد أن استسلموا لإرادة الأحزاب التي سعت إلى تحويل الطائفية السياسية إلى طائفية اجتماعية. وهو تحول خطير يشير إلى أن الأحزاب نجحت في تمزيق المجتمع بين الطوائف وأيضا بين القبائل والجهات. فلم يعد يُكتفى بمعرفة طائفة المرء، بل صارت هناك حاجة إلى معرفة إلى أيّ قبيلة ينتمي وفي أيّ مدينة يقيم. وهو ما لم يكن العراقيون يكترثون به كثيرا في الحقبة التي حكم فيها حزب البعث البلد.
أما ما علاقة ذلك بالفساد فيمكن توضيحه من خلال العودة إلى محاولة نفخ الروح في العصبية الطائفية والجهوية والقبلية والعائلية التي جهزت الفاسدين بحماية ليس في إمكان القانون اختراقها بسبب ما يمكن أن يسببه ذلك الاختراق من تداعيات على السلم الأهلي. لذلك بقيت كل ملفات الفساد مغلقة وظلت لجان النزاهة تدور في حلقة مفرغة. فالفاسد تحميه طائفته وعشيرته والمدينة التي ينتمي إليها. بما يعنى أن الخارطة السياسية ينبغي ألاّ تتعرض للطعن مهما كان السبب لأنها تقوم على خرائط أقوى منها وهي التي تثبتها وتشكل ضمانة لوجودها.
المطلوب أن يقال “لا يزال هناك أمل” ذلك سبب مقنع للاستمرار في العيش في بلد، كل ما فيه يخاطبك بلا جدوى العيش ويضيق عليك الخناق من كل الجهات لكي تغادره
من جهة أخرى فإن الفاسد إذا ما تم استضعافه من قبل طرف ما وتمت التضحية به من قبل الطرف الذي ينتمي إليه لن يُلقى القبض عليه مباشرة، بل يُعطى مهلة تمكنه من الهرب وحين يتم التأكد من أنه صار خارج الحدود تصدر مذكرة إلقاء القبض عليه التي لن تصل نسخة منها إلى الأنتربول الذي هو الآخر يتم الضحك عليه.
قبل سنوات ألقت شرطة الأنتربول القبض على عراقي ينتمي إلى حزب الدعوة اسمه فلاح السوداني كان قد اتهم بالتفريط بثلاث مليارات دولار يوم كان وزيرا للتجارة. حدث ذلك في بيروت وسُلّم إلى بغداد. لم يمض في المعتقل إلا ساعات وأفرج عنه بعد أن برأته المحكمة من التهم التي وُجهت إليه. فلا معنى إذاً لإبلاغ الأنتربول ما دام كل شيء مدبرا من أجل الإفلات من العقاب.
“كلنا مرتشون” جملة هي شعار ظاهرة لا تضم الطبقة السياسية وحدها، بل هي تضم كل فئات الموظفين الذين يمارسون الابتزاز على جميع المستويات. والمدهش أنها تشمل أئمة الجوامع والمعممين كلهم. فالفساد في العراق لم يعد حكرا على السياسيين ولا على أصحاب المصارف ولا على المقاولين ولا على زعماء ميليشيات الحشد الشعبي وسواها ولا على مؤسسات طفيلية كالسجين السياسي ومجاهدي رفحا والشهداء التي يديرها معممون، بل تمارسه مئات الألوف من الموظفين الذين صارت الرشوة بالنسبة إليهم عادة يومية بعد أن صدرت فتاوى دينية عديدة بالسماح بها.
العرب