الشيء الوحيد المؤكد اليوم في حربنا على كورونا هو أنه غير حياتنا إلى الأبد. وبعد عامين، المعركة مع الفايروس مازالت في بدايتها.
في كل مرة يظن العالم فيها أنه كسب الحرب على الوباء، أو كاد يكسبها، يظهر متحور جديد يعود بنا إلى نقطة الصفر.
ومع بدء احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، وانتشار متحور أوميكرون الجديد، يبدو الرؤساء وصناع القرار في دول العالم في حيرة من أمرهم.
الحرية الشخصية أول ضحايا الفايروس، وأولها حرية التنقل في البلد الواحد وبين دول العالم.
هذا ليس وقت الاحتفال؛ هو لسان حال الجميع. البيانات المنشورة حتى الآن تشير إلى أن إجمالي الإصابات وصل إلى 276 مليونا و243 ألف حالة.
هناك 5 ملايين ونصف المليون تقريبا فقدوا حياتهم عبر العالم، رغم أن عدد جرعات اللقاح المضاد لكورونا التي أعطيت عبر العالم تجاوزت 8 مليارات و770 مليون جرعة.
جرعة التفاؤل التي تلقاها العالم انتهى مفعولها بظهور متحور أوميكرون. وعلى السياسيين ألاّ ينتظروا وصول أخبار مطمئنة من العلماء. علميا، الطفرات المتعددة في المتحور الجديد تتيح له الالتحام بالخلايا البشرية بصورة أكثر فعالية من المتحورات الأخرى للفايروس، ولديه قدرة أكبر على مقاومة جزيئات النظام المناعي.
الأمر الذي ترجمه السياسيون وصناع القرار إلى موجة جديدة من الإغلاق على مستوى العالم، لتخبو موجة التفاؤل في الأسواق وهبوط في منحنى الأسواق.
عمالقة تصنيع الأدوية سارعوا للإعلان عن الشروع في تطوير لقاح جديد للمتحور، ولكن من يضمن عدم ظهور سلالة أخرى بعد هزيمة أوميكرون؟
للبعض يبدو ذلك مجرد عبث وخسارة للفلوس تذهب إلى جيوب المستثمرين في قطاع شركات الأدوية.
الانتصار على الجائحة لن يؤدي إلى عودة تلقائية للموظفين للعمل من المكاتب، هناك حسابات ربح وخسارة ستجريها الشركات، وستكون غالبا لصالح العمل من المنزل
ولكن، سياسيا، طرح مثل هذه الأسئلة غير مقبول، وظيفة السياسيين هي بث الأمل، حتى في أحلك الظروف، وهذا ما سارع إلى فعله الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي خاطب الأميركيين قائلا إن الوضع تحت السيطرة.
لا يحسد السياسيون على الموقف الذي وجدوا أنفسهم فيه، وباتوا اليوم كمن يسير في حقل من الألغام، لا يعلمون متى ينفجر لغم تحت أقدامهم.
في الأيام الأولى لظهور الوباء وتفشيه، قرأنا الحيرة والارتباك في مواقف صناع القرار؛ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تحدثت منذ الأيام الأولى عن احتمال إصابة 70 في المئة من الألمان بالفايروس، وطلب رئيس الوزراء البريطاني من الناس أن يودّعوا أحبابهم.
أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي اعتاد إطلاق التصريح ونقيضه، خلال 24 ساعة، فتعامل مع وباء كورونا بنفس الأسلوب؛ يطلق التصريح ليتبعه بتصريح معاكس.
بعد 9 مليارات جرعة لقاح على مستوى العالم، هل حقا أن الوضع مسيطر عليه؟ وهل يمكن أن نلوم السياسيين على إطلاقهم تصريحات تأتي أحيانا متناقضة، وأحيانا أخرى تجانب الصواب؟
لا حاجة للبحث عن إجابة لهذا السؤال. الأيام القليلة القادمة ستكشف عن الإجابة.
ما لا شك فيه، أن جائحة كوفيد – 19 غيرت حياتنا.
وبقدر ما كان الوباء دليلا على هشاشتنا على المستوى العالمي، كان أيضا دليلا على ترابطنا، وساعدنا على اكتشاف مدى حاجتنا إلى بعضنا، من الناحية الاقتصادية والصحية والحياة الاجتماعية.
وترى ماري كلير فيلفال مديرة البحوث الاقتصادية في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي المتخصصة في الاقتصاد السلوكي إن الأزمة الصحية الناجمة عن جائحة كورونا بقدر ما أظهرت هشاشتنا، أثبتت قدرتنا على التكيف.
وبغض النظر عن موقفنا كأفراد من الإجراءات المتبعة، سواء بالرفض أو القبول “ذكرتنا الأزمة بمسؤولياتنا الفردية في المصير المشترك للمجتمع.. لم نصبح أكثر تعاطفا أو أكثر كرما، لكن لا يستطيع أحد أن ينفي أننا تعلمنا قواعد ومعايير سلوكية جديدة في المجتمع، وأصبحنا أكثر حرصا وحذرا لأنفسنا وللآخرين”.
ترافق ظهور الوباء مع تنامي تأثيرات الثورة الرقمية على حياتنا، ونبهنا إلى الفوائد التي يمكن أن نجنيها من تطبيقات الذكاء الاصطناعي ومن الخوارزميات وعلم البيانات.
لا نتحدث هنا عن فوائد التكنولوجيا المتعلقة بمواجهة كورونا فقط، بل عن الفوائد التي يمكن أن تجنيها المجتمعات عموما من التكنولوجيا، خاصة على الصعيد الأمني والاقتصادي.
بدا ذلك واضحا على الصعيد المهني. التباعد فرض علينا البحث عن طرق جديدة للعمل، وكانت التكنولوجيا جاهزة لتنقذنا. أول شيء اكتشفناه أن نسبة كبيرة من الأعمال التي نقوم بها في المكاتب يمكن أن ينجزها الموظفون من منازلهم. دون حاجة إلى التنقل، وتم استبدال السفر لدواعي العمل بمؤتمرات افتراضية.
هذا أدى إلى خلق قيود جديدة على التنسيق، ولكن تقول ماري كلير “ولّد المزيد من المرونة في أساليبنا التنظيمية”.
عمالقة تصنيع الأدوية سارعوا للإعلان عن الشروع في تطوير لقاح جديد للمتحور، ولكن من يضمن عدم ظهور سلالة أخرى بعد هزيمة أوميكرون؟
الأزمة التي تسببت في تقييد السفر، وأظهرت الحاجة إلى التركيز على مصادر توريد محلية، عززت أيضا من انفتاحنا على الخارج. وهذا ما سهلته التكنولوجيا الرقمية.
هناك من يرى أن هذا التغير السلوكي عابر، سيزول مع زوال الجائحة، لتعود الأمور إلى ما كانت عليه. فالسلوكيات الجديدة التي فرضها علينا الوباء لن تتحول تلقائيا إلى عادات جديدة.
ولكن، ألم يشهد العالم ظهور سلوكيات جديدة مع انتشار مرض الإيدز في ثمانينات القرن الماضي، تحولت معها المجتمعات التي كانت حينها تشهد ذروة في العلاقات الجنسية المتعددة إلى مجتمعات أكثر ميلا للمحافظة؟
ورغم أن الأجيال الجديدة لم تختبر المخاوف التي أثارها انتشار مرض الإيدز، إلا أنها ورثت عن الأجيال التي سبقتها الميل للحذر والمحافظة في العلاقات الجنسية.
لكي تتحول الممارسات إلى عادات يجب أن تبقى بيننا لفترة من الزمن. وحتى هذه اللحظة نحن نتعايش من تلك التغيرات منذ عامين، ويبدو أن علينا أن نعتاد التعامل معها لفترة ليست قصيرة، وهذا كفيل بتحويلها إلى عادات تبقى معنا.
الانتصار على الجائحة لن يؤدي إلى عودة تلقائية للموظفين للعمل من المكاتب، هناك حسابات ربح وخسارة ستجريها الشركات، وستكون غالبا لصالح العمل من المنزل.
ولن يختلف الأمر في التسوق عبر الإنترنت، بعد أن اكتشف البائع والشاري مزاياه، التي تكاد تخلو من العيوب. ولن تعيد المصارف فتح فروع أغلقتها أو تعيد التعامل المباشر. فتجربة التعامل عبر الإنترنت أثبتت فعاليتها ونجاعتها.
هناك اليوم من يتحدث عن أفول نجم العملة الورقية؛ العالم كله سيتحول إلى العملة الرقمية بعد أن خبر مزاياها.
حتى فيما يتعلق بالسفر والتنقل، لماذا نعود إلى الأسلوب التقليدي بعد أن اكتشفنا مزايا عقد المؤتمرات افتراضيا؟
ولن تتخلى المطارات والفنادق عن الإجراءات الاحترازية، ولن تختفي الروبوتات التي ظهرت فجأة، بل سيزداد انتشارها.
هناك ألف دليل ودليل على أن العالم لن يعود إلى سابق عهده بعد تراجع الوباء والانتصار عليه، التغييرات التي أحدثها كورونا ثبتتها ورسختها التكنولوجيا. واختفاء الفايروس لن يؤدي إلى اختفاء التكنولوجيا. إنها بيننا، ليس فقط لتبقى، بل لتعزز من وجودها.
العرب