على الرغم من الجولات الأربع المعلنة للحوار السعودي – الإيراني باستضافة عراقية على أرض العاصمة بغداد، والإيجابية التي يؤكد عليها الطرفان حول النتائج، تنشغل كل الأوساط المراقبة لهذا الحوار في تتبع ما يتعلق به من تطورات، ومنها رصد أي مؤشر يدلل على استمرارها، وإن كان بشكل غير مباشر، هو ما حصل في التعامل مع اللقاء الأكاديمي الذي استضافته العاصمة الأردنية قبل أسابيع لمختصين من كلا البلدين، والجدل الذي أثاره، واعتباره استئنافاً للمفاوضات الثنائية على مستوى أمني.
والنفي الصادر عن الطرفين السعودي والإيراني لحصول مثل هذا اللقاء، من دون نفي وجود مسارات موازية قد تكون مهمتها، إعداد الأرضية المناسبة، وتفكيك بعض التعقيدات قبل استئناف الحوار الرسمي، وكشف مصدر معني بهذا المسار الحواري عن حصول لقاءات على المستوى الأمني استضافتها في وقت سابق العاصمة العمانية مسقط، وهو ما لمح له قائد أركان القوات المسلحة الإيراني الجنرال محمد باقري الذي أكد حصول لقاءات بين الطرفين، من دون الكشف عن طبيعة هذه اللقاءات، باستثناء التأكيد على إيجابيتها والتقدم الملموس الذي حققته في التفاهم حول بعض القضايا الخلافية.
رغبة الطرفين في الحوار؟
هذه الاستراحة أو الوقفة في عقد الجلسات الثنائية، سواء في بغداد أو أي عاصمة إقليمية أخرى، فإن المسار برمته يعيد طرح سؤال حول رغبة الطرفين في الحوار، في وقت تكشف التجارب السابقة، خلال العقود الماضية، عدم نجاح الدبلوماسية في خفض التوتر والحد من الخلافات التي كانت تصل في بعض المراحل إلى صراع مفتوح بين الطرفين.
وتحتوي مذكرات الرئيس الإيراني الأسبق الراحل هاشمي رفسنجاني كثيراً من الفقرات عن حوارات واتصالات مباشرة أو غير مباشرة بين القيادتين الإيرانية والسعودية خلال الحرب العراقية الإيرانية، إلا أنها لم ترتق إلى مستوى العلاقات الحميمة والتنسيق الواضح ولم تؤسس لبناء الثقة الكاملة بين الطرفين، حتى الزيارة التي قام بها رفسنجاني في بداية تسعينيات القرن الماضي والحفاوة الكبيرة من قبل الراحل ولي العهد حينها الملك عبد الله بن عبد العزيز، لم تفتح الطريق أمام تطبيع العلاقات الثنائية، وكذلك لم تنجح الجهود التي بذلها الطرفان في عهد الرئيس محمد خاتمي والمعاهدة الأمنية التي وقعها وزير الداخلية السعودي الأمير نايف بن عبد العزيز مع حسن روحاني حينها عندما كان يشغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي في دفع هذه العلاقة إلى الأمام.
التريث السعودي في الانفتاح على الجار الإيراني، كان نتيجة القلق المتأتي من الطموحات الإيرانية التوسعية في الإقليم، واستمرار سياسة التدخل التي مارستها طهران في المسائل والشؤون الداخلية لهذه الدول، وقد ارتفعت وتيرتها مع الاحتلال الأميركي للعراق، بعد أن أخذت هذه التدخلات طابعاً أمنياً وعسكرياً، ولم تعد تقتصر على المواقف السياسية، بخاصة مع لجوء طهران لبناء أذرع عسكرية مع جماعات ومكونات في دول المنطقة، اتهمتها السعودية والدول الأخرى بلعب دور مخرب واستهداف استقرار الدول والحكومات.
شهوة الطموحات الإيرانية
ولعل الأزمة اليمنية تشكل ذروة هذه المخاوف السعودية والعربية من شهوة الطموحات الإيرانية في السيطرة على مسارات وقرارات الإقليم، والتي نقلت الأزمة بين السعودية وإيران إلى مراحل متقدمة، لجهة ما تشكله من تهديد لأمنها القومي وعمقها ودورها العربي والإسلامي، باعتبار أن الدعم الإيراني لجماعة الحوثي بات يشكل تهديداً مباشراً للبنى التحتية غير العسكرية والاقتصادية المهمة بخاصة بعد الاعتداء الذي تعرضت له منشأة “أرامكو”.
التعقيدات والمتغيرات الإقليمية والدولية التي أسهمت في إعادة تفعيل مسار الحوار والتشاور بين الجانبين الإيراني والسعودي، من المفترض بها أن تؤسس لإطلاق مرحلة جديدة من العلاقات الإقليمية، بخاصة بين ضفتي مياه الخليج، وتحديداً بين الرياض وطهران، إلا أن هذا المسار يصطدم بعائق أو حاجز رؤية كل طرف من الطرفين إلى دور هذه الحوارات والنتائج المطلوبة منها في إطار يخدم مصالح كل طرف الاستراتيجية والإقليمية والدولية.
توظيف الحوار
فإيران تسعى لتوظيف الحوار المستجد مع الرياض لتوجيه رسالة إلى المجتمع الدولي وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية بقدرة دول المنطقة المتنافسة والمتخاصمة على حل أزماتها وخلافاتها من دون أي تدخل أو مساعدة خارجية أو دولية، وتعزيز الرؤية الإيرانية التي تحاول تكريس مفهوم ومسؤولية واشنطن عن النزاعات التي تعيشها المنطقة، وأن الوجود الأميركي يشكل تهديداً ومانعاً أمام الاستقرار الأمني أو بنائه في إطار المصالح الإقليمية، وأن المدخل الأساس لإيصال هذه الرسالة إلى الإدارة الأميركية يأتي من بوابة ترميم العلاقة مع السعودية وإزالة ما شابها من توترات وخلافات ومعالجة مصادر القلق السعودي بعيداً عن الضغوط الأميركية ودورها في الإبقاء على حالة التخاصم بين البلدين.
طاولة التفاوض النووي
وما تسعى له طهران وتتعجل حصوله على خط تطبيع العلاقة مع الرياض، يهدف إلى إخراج ورقة النفوذ الإقليمي عن طاولة التفاوض النووي التي تتمسك بها واشنطن وتسعى لإلزام إيران بالعودة لاحقاً إلى التفاوض حول هذا الدور والنفوذ.
إن ما يسعى له النظام الإيراني من الإصرار على الحوار مع الرياض هو تثميره وترجمته بخطوات عملية، من هنا تأتي الدعوة الإيرانية بالذهاب إلى خطوة إعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قبل الإعلان عن أي تقدم على المسارات الأخرى التي تشكل مصدر توتر وخلاف بينهما، إضافة إلى محاولة تكريس الفصل بين أزمات إيران الإقليمية والمفاوضات النووية. وهي تحاول استغلال التوجه الجديد لدى القيادة السعودية الساعي لإنهاء التوترات والخلافات مع كل الأطراف الخليجية والعربية والإقليمية للدفع من أجل الحصول على قرار سعودي بإعادة فتح القنصليات السعودية في مدينة مشهد، والإيرانية في مدينة جدة، كخطوة على طريق إعادة فتح السفارات في عاصمتي البلدين.
الأزمة اليمنية
وتعتقد الرياض أن تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع طهران قد يشكل وسيلة لإقناع إيران للالتزام بتعهداتها في المساعدة في حل الأزمة اليمنية التي تشكل المدخل لبحث مختلف الأزمات الأخرى في الإقليم، إلا أن العقبة الأساس على هذا المسار تكمن في صعوبة التأكد من النوايا الإيرانية في التعاون مع هذا الملف والملفات الأخرى، بخاصة وأن الاستراتيجية الإيرانية تقوم أساساً على مبدأ الحفاظ على قدراتها وتفوقها الإقليمي، لذلك، فإن توصل الطرفين إلى تفاهمات، لن يكون من السهل على الرياض التأكد من النوايا الإيرانية في ظل غياب إطار متعدد الأطراف يتداخل فيه الإقليمي مع الدولي، بخاصة وأن أي انتكاسة في المسار التفاوضي حول الملف النووي قد ينعكس سلباً على مسار الحوار بين الرياض وطهران، وقد يدفع كلا الطرفين للعودة إلى المربع الأول من التوتر من أجل تحسين مواقفهما ومواقعهما وتحصينها، لا سيما من قبل الرياض التي تنظر إلى الطموحات الإيرانية بخاصة النووية بعين القلق في ظل مساعي الأخيرة لتفكيك المسار الدبلوماسي النووي عن المسار الدبلوماسي الإقليمي.
اندبندت عربي