في إطار جهود الولايات المتحدة الأمريكية لاحتواء الخلافات مع فرنسا والتي تفاقمت على خلفية إلغاء استراليا لصفقة غواصات فرنسية واستبدالها بأخرى أمريكية في شهر سبتمبر الماضي، أعلن البيت الأبيض عن زيارة ستقوم بها كمالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي جو بإيدن إلى باريس في 11 نوفمبر الجاري (2021) للبحث في سبل دعم الشراكة بين ضفتي الأطلنطي.
وبغض النظر عن جدول أعمال اللقاء وتفاصيله، تبدو العلاقات الأمريكية الفرنسية في حالة توتر مستمر، ولا يعود هذا التوتر إلى منافسات تتعلق بالمصالح الاقتصادية والأمنية للبلدين، بقدر ما ترتد تاريخياً – على الأقل منذ الحرب العالمية الأولى- إلى مشكلة أعمق تتعلق بالصراع بين ثقافتين تحمل كل منهما إرثاً تاريخياً له امتداده خارج حدودهما.
وتحاول هذه الورقة بحث البعد الثقافي في الصراع دون إهمال البعدين الآخرين في مثلث عناصر القوة الشاملة لأى بلد؛ القوة الاقتصادية والقوة العسكرية، وتفترض الورقة أن فرنسا قد حاولت منذ الحرب العالمية الثانية أن تحافظ على مكانتها كقوة عظمى رغم هزيمتها واحتلال ألمانيا لأراضيها، ورغم عدم قدرتها على تحرير نفسها من الاحتلال الألماني واعتمادها على الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق هذا الهدف.
محاولة الحفاظ على المكانة لدولة تلقت هزيمة عسكرية قاسية، تلتها خسارة مستعمراتها بعد حروب فاشلة خاصة في منطقة الهند الصينية في خمسينات القرن العشرين، كان أمراً مستحيلاً، خاصة أن أوروبا الغربية بأكملها وليس فرنسا وحدها اضطرت للاعتماد على الدعم الاقتصادي الأمريكي لسنوات طويلة، وهو ما كان يعني أن فرنسا مثلها مثل دول أوروبية أخرى كانت قد فقدت أو على الأقل عانت من تدهور ضلعين أساسيين في مثلث القوة الشاملة، وفقدت معه أى قدرة على الادعاء بأنها لا تزال قوه عظمى، وبدلاً من التعامل مع هذا الوضع بشكل واقعي وصياغة سياسة خارجية تستجيب لحقائقه، فضّلت فرنسا تعويض خسارتها في القوة الصلبة “hard power”بالمبالغة في قيمة القوة الناعمة “”soft powerومحاولة الدفاع عن مكانتها بالدخول في منافسة غير متكافئة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
تنقسم الورقة إلى أربعة أقسام: يناقش الجزء الأول مفهوم الصراع الثقافي نظرياً وكيف انطبقت ملامحه على العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا. ويتناول الجزء الثاني الاستثنائية الثقافية، والكيفية التي تبلورت بها فكرة التفرد أو الاستثناء الثقافي لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا على أرض الواقع تاريخياً. ويناقش الجزء الثالث أزمة النموذج الثقافي الفرنسي، وكيف حاولت فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية تعويض خسارتها القوتين العسكرية والاقتصادية والتي هددتها بفقدان مكانتها كقوة عظمي، بتعظيم الحرب الثقافية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وترك النخب الثقافية الفرنسية وليس النخب السياسية والعسكرية تتولى صياغة السياسة الفرنسية الخارجية. ويناقش الجزء الرابع التفسير الثقافي للتوترات الأمريكية الفرنسية وتقييم المواجهات الفرنسية مع السياسة الأمريكية والنتيجة التي حققتها سلباً وإيجاباً للمصالح الفرنسية.
الثورتان الأمريكية والفرنسية ومفهوم صراع الثقافات
ينطوي مصطلح الثقافة culture على تعقيدات كثيرة فيما يتعلق بتعريفه، وعادة ما يلجأ كل باحث إلى اعتماد مفهوم إجرائي للمصطلح يخدم أهداف بحثه، دون أن يدعي أن هذا التعريف يلم بكل المعاني المتضمنة في مفردة أو مصطلح الثقافة.
ويعتمد هذا البحث على تعريف إجرائي للثقافة بأنها “رؤية جماعه بشرية لمكانتها في مقابل الجماعات الأخرى المنافسة لها”، واختيار هذا التعريف مقصود رغم أنه قد يثير نوعاً من الالتباس، حيث يتطابق مع مفهوم الهوية التي عادة ما تتحدد بالأنا في مواجهة الآخر، ولكن من الناحية الإجرائية تفترض الورقة أن المفهومين متصلان ومتشابكان ولا يمكن الفصل بينهما من حيث أن الهوية كصورة للذات في مواجهة الآخر أو بهدف التمايز عنه، قد تتحول إلى ثقافة عدوانية، أو رغبة في التسلط والهيمنة في بعض الممارسات، وسواء تعلق الأمر بالتقسيمات الفئوية والطبقية والدينية داخل الجماعة البشرية نفسها، أو بالانقسامات الحديثة بين الجماعات البشرية بعضها البعض في صور دول قومية، تصيغ أى جماعة أو أى دولة قومية أساطير حول هويتها وما يجب أن تحظي به من مكانة بين الجماعات المحلية أو الأمم الأخرى. وعادة ما تنهض الهوية الجمعية أو القومية للجماعة البشرية أو الأمة- الدولة على حدث مؤسس في تاريخها يمنحها الشرعية في الادعاء بتفوقها على الآخر (جماعة أو جماعات محلية، أمة أو أمم منافسة لها). ورغم ذلك لا تتوافر لكل الأمم فرصة الادعاء بعالمية ثقافتها وصلاحيتها لكي تكون نموذجاً للبشرية بأكملها. فقط هناك ومنذ بداية سيادة المسيحية في العالم القديم ومن بعدها انتشار الإسلام في نفس العالم ظهرت فكرة الإمبراطوريات التي تتأسس على نموذج للثقافة والهوية المناسبتين لكل بني البشر، فالأديان عادة ما تتجه إلى البشرية جمعاء بلا تمييز، ومع مولد عصر التنوير كان على الأيديولوجيات الإنسانية التي حاولت منافسة الأديان من حيث صلاحيتها للبشر جميعاً، أن تتبنى مفاهيم تدعي عالميتها، ولذلك كان شعار الثورة الفرنسية : الحرية، المساواة، الإخاء، مماثلاً تماماً للخطاب التبشيري الديني، بما يعني أن مفكري هذا العصر نظروا للثورة الفرنسية ومبادئها على أنها تصلح للبشرية كلها وليس لفرنسا وحدها، وهو ما سبق وأن لاحظه جوستاف يلبون مستشهداً بمقولة وردت في أحد خطب روبسبير (أحد قادة الثورة ) بأن “الله أمر بالنظام الجمهوري منذ البدء!”(١).
لم يختلف الأمر لدى الأمريكيين في علاقتهم بثورتهم باعتبار قيمها الداعية للحرية الفردية والديمقراطية هى قيم عالمية وليست محلية، وفِي ارتباط ثورتهم بقيم دينية، فتعبير “الدِين المدني الأمريكي” كمفهوم ظهر لأول مرة أثناء الثورة الأمريكية، وكان يقصد به خلع القداسة على الأمة والثقافة الأمريكيتين، ولم تعني قداسة الهوية الأمريكية مجرد احتفاء بالذات، بل كانت في جوهرها دعوه للآخر لتبني الثقافة الأمريكية كمفهوم عالمي من خلال مجموعة من المقولات التأسيسية المنقولة حرفياً من الكتاب المقدس، مثل:
١- أمريكا أرض الميعاد أو أورشليم الجديدة
America as the Promised Land or the New Jerusalem
٢- أمريكا المدينة المضيئة فوق التل
America as Shining city on the hill
٣- أمريكا شعب الله المختار
(٢).Americans as the Chosen people
وفي أحيانٍ كثيرة كان العديد من القادة الفرنسيين والأمريكيين يتفوهون بعبارات تشي بأنهم لا يفرقون كثيراً بين “الفرنسة” أو”الأمركة” وبين التبشير المسيحي حيناً، والتبشير الثقافي حيناً آخر، حتي في تاريخ حديث نسبياً وحسب ما أورده كلايد بريستوويتز (المستشار التجاري في إدارة الرئيس ريجان) في أحد كتبه “إنه عندما احتلت أمريكا الفلبين في عام 1945، وقف أحد السياسيين الأمريكيين مدافعاً عن الاحتلال بقوله: هناك حاجه للنهوض بهم وتنصيرهم، ولكن (الكلام لبريستوويتز) سوف ينزع عن النيوإمبرياليين أى ترابط مع التنصير وسوف يستبدلوه بالأمركة، ولا يوجد فرق كبير”(٣).
وقد لا يكون رأى بريستوويتز واضحاً بما فيه الكفاية، فالأمركة على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تعد تعني التنصير بل تعني نشر الثقافة الأمريكية باعتبارها (وفق رأيه) النموذج المثالي لما يجب أن يكون عليه المجتمع الإنساني العالمي. ويمكن ذكر الكثير من الوقائع التي تدلل على احتواء الثقافتين الأمريكية والفرنسية على توجه نحو الهيمنة والاستعلاء على الثقافات الأخرى، وما يهمنا هنا هو الأثر الذي يتركه الاختلاف الثقافي بين الدول القومية على أنماط تحركاتها التي تستهدف تحقيق مصالح مادية واضحة، وكيف تلعب ثقافة بعض الأمم أو تلك، دوراً لا يمكن تجاهله في صياغة هذه التحركات، سواء بشكل معلن أو مستتر لشرعنة سياستها وتوجهاتها التي قد تتصادم مع نفس القيم التي تبشر بها ثقافتها، والتي قد تكون عدوانية وتستهدف السيطرة على الآخر. ومن هنا تنشأ الحروب الثقافية، يقول ادوارد سعيد: “ثمة في جميع الثقافات المحددة تحديد قومي، كما أعتقد، تطلع إلى السيادة والسطوة والسيطرة”.(٤) أو بشكل آخر، إذا كانت المقولة الشهيرة لكارل فون كلاوزفيتز “الحرب هى امتداد للسياسة ولكن بطريقة أخرى” لا تفصل بين الحرب والسياسة من ناحية محتوى كل منهما، فعلى غرار ذلك يمكن القول أن “الحروب الثقافية” ليست امتداداً للسياسة فقط، بل تصنع هذه السياسة أحياناً. وقد لجأ بعض منظري العلاقات الدولية إلى تناول مفهوم “المكانة” لتفسير العديد من التفاعلات الإقليمية والدولية بما في ذلك الحروب التي تشن من أجل الحفاظ أو تحقيق المكانة. يقول أحد الباحثين: “منذ ظهور النظام الدولي الحديث، سعت القوى العظمى دائماً للحفاظ على السيطرة على المكانة، وعلى الوسائل التي يتم من خلالها تعريفها، وتحديد الجهات المسموح لها بالتنافس عليها”.(٥)
اعتماداً على هذه المقدمة المنهجية، يمكن القول أن الثورتين الأمريكية والفرنسية هما الحدثان الكبيران في التاريخ الحديث الذي تأسست عليهما الأساطير الثقافية للأمتين، ومن حولهما (أى الثورتين) يدور صراع مستتر حول من منهما التي تمثل ثقافتها النموذج المثالي للقيم التي تصلح للبشرية بأكملها مهما كانت الاختلافات الثقافية بينها. أو على حد تعبير أحد الباحثين: “عندما ندرس الثورتين الأمريكية والفرنسية تواجهنا ظاهره جلية عن حدثين كان فيهما البحث عن الحرية (الحلم الخالد للبشرية) يتميز بمسارين مختلفين تماماً رغم وحدة الهدف، بل يمكن أن نلحظ صراعاً دفيناً بينهما حول تعريف الطبيعة البشرية، وحول تشكيل المجتمع السياسي”.(٦)
ولكن ينبغي ملاحظة أن سمة العالمية التي أرادت كلتا الثورتين مصادرتها لصالحها، كانت أوضح في الثقافة الفرنسية منها في الأمريكية، ويعود ذلك، إلى النزعة الانعزالية التي ميزت الدولة الأمريكية حتي مطلع القرن العشرين، حيث انشغل الأمريكيون بعد نجاح ثورتهم في بناء دولتهم وابتعدوا عن الصراعات التي كانت تمزق أوروبا والتي استمرت طيلة القرن التاسع عشر. وبمعنى آخر، ورغم إيمان الأمريكيين بأن ثورتهم أتت بالنموذج المثالي الذي يجب أن تقتضي به بقية الشعوب، إلا أنهم لم يحاولوا الترويج لذلك النموذج، ربما لعدم انخراطهم في الحركة الاستعمارية (كما فعلت فرنسا) التي انطلقت من أوروبا صوب آسيا وأفريقيا خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حيث كان المستعمرون الأوروبيون عادة ما يلجئون إلى التبشير الديني أو الادعاء برغبتهم في نشر ثقافة “الأنوار” التي صاغتها أوروبا لتعم العالم كله، للتغطية على جرائمهم في حق الشعوب التي غزوها، ولم تكن الولايات المتحدة الأمريكية في حاجة إلى كلتاهما لأنها لم تتحول نحو التوسع الخارجي إلا في حدود ضيقة وفي الجوار الإقليمي لها في أمريكا الجنوبية حتى بدايات القرن العشرين.
الصراع على صفة الاستثنائية Exceptionalism
عندما تزعم ثقافة ما تفردها وتميزها عن الثقافات الأخرى، فإن الحروب الثقافية تصبح أكثر قرباً، خاصة عندما يكون الصراع بين قوتين كبيرتين ترى كل منها أنها تمتلك ثقافة استثنائية، وبالفعل لم يكن صعباً اكتشاف أن الثقافتين الفرنسية والأمريكية تسيران على طريق المواجهة والصدام، فتعبير الاستثناء الأمريكي American exceptionalism ومثيله الفرنسي French exceptionalism ظهرا في تزامن مع اندلاع الثورتين الأمريكية والفرنسية، وكان يعنيان أن الثقافتين الأمريكية والفرنسية تمتلكان سمات لا تتوفر للشعوب والأمم الأخرى، فخلال الأحداث التي مهدت لنجاح الثورة الأمريكية خاطب القس الأمريكي صموئيل شيروود عام 1774 مستمعيه قائلاً: “إن الشعب الأمريكي تحت حكم الرب، يقع على عاتقه تكليف خاص، بإتباع قانونه، لأن الولايات المتحدة الأمريكية هى بلاد استثنائية”(٧). أما الفرنسيون فقد ضمّنوا مصطلح الاستثناء الفرنسي في دستورهم الأول عقب الثورة الفرنسية عام 1789، وأرادوا أن تكون استثنائية ثقافتهم أقدم كثيراً من استثنائية أمة حديثة التكوين مثل الأمة الأمريكية، برد هذا الاستثناء إلى الثقافة الغالية (الغاليين كشعب أوروبي ورث قيم الإمبراطورية الرومانية).(٨)
ويمكن القول أن الخوف الفرنسي من الثقافة الأمريكية كان أسبق على وقوع الثورة الفرنسية، ففرنسا الملكية كانت قد دعمت الثورة الأمريكية ضد منافسها الرئيسي (الاستعمار البريطاني) ولم تدرك أن سلاح الحرية الذي استخدمته ضد المستعمر البريطاني المنافس لها، هو نفسه السلاح الذي سيستخدمه المعادون للملكية في فرنسا لتهديد النظام القائم وإسقاطه في النهاية، “وقد ندمت فرنسا بالفعل على دعمها للثوار الأمريكيين لأن النموذج الأمريكي شكل إلهاماً لطلاب الحرية في كل مكان”(٩). لكن ما منع نشوب حرب ثقافية بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية مبكراً، أو منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى أوائل القرن العشرين، هو العزلة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية على نفسها بشكل اختياري، والذي جعل مؤرخاً مثل اريك هوبزباوم يقول: “كانت الثورة الفرنسية بين الثورات المعاصرة لها وحدها توجه رسولي، فقد انطلقت جحافلها من أجل دفع العالم نحو الثورات، وقد أفلحت أفكارها في تحقيق ذلك، أما الثورة الأمريكية فقد ظلت حدثاً مصيرياً في نطاق التاريخ الأمريكي وحده ولم تُخلِّف وراءها غير آثار أساسية قليلة خارج هذا الإطار”(١٠)، ولكن يبدو أن هوبزباوم تجاهل الدور الذي بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في ممارسته على المسرح الدولي خلال الحرب العالمية الأولى، والذي سيدفع بالصراع الثقافي بين البلدين إلى المقدمة بشكل صريح. لقد رأى المفكر الألماني هانز هيرمان هوبا أن الحرب العالمية الأولى كانت حرباً أيديولوجية قادتها الولايات المتحدة الأمريكية ووقعت أحداثها الأساسية في أوروبا و”في ظل إدارة ويلسون أصبحت الحرب الأوروبية مهمة أيديولوجية تسعى لجعل العالم ملاذاً آمناً لممارسة الديمقراطية وخالياً من الأسر الحاكمة”(١١)، وما قصده هوبا هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية اعتبرت أن تدخلها في الحرب العالمية الأولى حتي لو في وقت متأخر، قد أحدث تأثيراً أكبر من الزاوية الثقافية من التأثير المنافس الذي مثلته قيم الثورة الفرنسية، حيث لم يؤد النموذج الثوري الفرنسي الذي كان يستهدف تحويل الممالك الأوروبية إلى جمهوريات سوى لتغيير نظامين ملكيين إلى جمهوريتين فقط خلال ما يزيد على قرن كامل بعد الثورة الفرنسية، بينما كان مشروع الرئيس ويلسون لمنح حق تقرير المصير للشعوب كقيمة من قيم الحرية التي تبشر بها الثورة الأمريكية، قد قوض معظم الممالك والإمبراطوريات الكبرى في أوروبا والشرق الأوسط، وهو ما كان يصب في صالح المزاعم الأمريكية بأن تأثير الولايات المتحدة الأمريكية الثقافي أكبر من مثيله الفرنسي، أو أن الاستثنائية الثقافية الأمريكية تتفوق على مثيلتها الفرنسية بل تجٌبها بشكل واضح.(١٢)
ويمكن القول أن النجاح الكبير للولايات المتحدة الأمريكية في المسرح الأوروبي وما حققته من نتائج عقب الحرب العالمية الأولى قد عزز من إيمان الأمريكيين بأن ثقافتهم هى الأكثر استثنائية في التاريخ وأن انتصارها النهائي أمر حتمي، وأن السبب الحقيقي الذي يجعل الأمريكيين لا يرون إمبراطوريتهم الخاصة، هو إيمانهم الضمني بأن كل إنسان هو أمريكي محتمل، أو أن انتسابه الوطني أو الثقافي الحالي إنما يرجع إلى سوء الحظ، وإن كان قابلاً للانعكاس.”(١٣)
تدهور القوة الفرنسية وتصاعد الحرب الثقافية
انطوى النموذج الثقافي الفرنسي منذ الثورة الفرنسية على تناقض رئيسي يتعلق بمدى مصداقية القيم التي يروج لها، حيث ترافق التوسع الاستعماري لفرنسا والذي تميز بالقسوة والوحشية في التعامل مع الشعوب التي تم غزوها، مع ادعاء كاذب بأن هدف الاستعمار هو تحرير وترقية الشعوب المتخلفة وتأهيلها للانضمام إلى المسيرة الحضارية الإنسانية، لتسود في النهاية قيم وشعارات الثورة الفرنسية (حرية، مساواة، إخاء). والواضح أن فرنسا لم تأبه لهذا التناقض، ولم تفطن للخطر القادم من النموذج الثقافي الأمريكي والذي يبشر بنفس القيم دون نشاط استعماري. فقد كانت القوة الفرنسية في أعقاب الحرب العالمية الأولي في أوجها عسكرياً واقتصادياً، وكانت فرنسا الشريك المتساوي مع بريطانيا في قيادة النظام الدولي، ومن ثم لم تشعر فرنسا بخطر حقيقي على قوتها الثقافية حتى أتت الحرب العالمية الثانية، وما أحدثته من صدمة عنيفة للكبرياء القومي الفرنسي بعد الاحتلال الألماني لأجزاء واسعة من أراضيها عام 1940، وانقسام البلاد على نفسها بين مؤيدين للحكومة التي نصبها الاحتلال الألماني بقيادة الجنرال فيليب بيتان (عرفت هذه الحكومة باسم حكومة فيشي نسبة إلى أحد المناطق الواقعة تحت الاحتلال الألماني) وبين من عارضوها وعارضوا توجهاتها التابعة لألمانيا. ورغم تزايد التأييد الشعبي لحركة المقاومة- التي قادها شارل ديجول- تدريجياً، لم تتمكن الحركة من تحرير البلاد من الاحتلال الألماني وحدها، واضطرت للاعتماد على قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق هذا الهدف.
كانت نتائج الحرب كارثية بالنسبة لفرنسا أكثر من أى بلد أوروبي آخر، فقد كان استسلام ألمانيا ووقوعها تحت الاحتلال على يد الحلفاء أمراً متوقعاً بعد توسعها في فتح العديد من جبهات القتال في وقت واحد، أما بريطانيا التي عانت من الدمار بنفس القدر فلم تسقط في يد الألمان واستطاعت الصمود حتى جاء العون الأمريكي الذي أنهي الحرب لصالح الحلفاء، بما حفظ لها كبريائها الوطني واعتزازها الثقافي. في المقابل كانت خسائر فرنسا كبيرة في كل عناصر القوة، فلم تخسر قوتها العسكرية والاقتصادية فقط، بل عانت أيضاً من قلق شديد بسبب الآثار التي ستتركها الحرب على قوتها الناعمة (القوة الثقافية)، فمن ناحية كانت فرنسا تدرك أن المهزومين في الحروب يكونون أقرب لتبني ثقافة المنتصر، ومن الناحية الأخرى كان المنتصر في هذه الحرب (الولايات المتحدة الأمريكية) حتى لو كان حليفاً لهم، هو في الأصل أشد المنافسين على مفهوم الاستثناء الثقافي.
كان من نتائج الحرب أيضاً، أن صورة النخبتين العسكرية والسياسية في فرنسا قد تضررت كثيراً، وأصبح من السهل إزاحة أعضاء تلك النخبتين لصالح النخب الجديدة المتركزة في أوساط المثقفين الفرنسيين، وجنود حركة المقاومة وعلى رأسهم الجنرال شارل ديجول، الذي كان يؤمن بأنه “بدون شعور الفرنسيين بأن بلادهم قوة عظمى، فإن فرنسا لن تكون فرنسا التي نعرفها”.(١٤)
ولأجل أن تبقى فرنسا قوة عظمى، لم تحاول فقط التركيز على قوتها الثقافية، بل حاولت أيضاً استرداد هيبتها العسكرية عبر خوض حروب متعددة للحفاظ على مستعمراتها السابقة، وهو ما كلفها المزيد من الخسائر المادية والمعنوية، حيث عانت من هزيمة مذلة في منطقة الهند الصينية عام 1954، رغم المساعدات الكبيرة التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية إليها، بما في ذلك عرض تزويدها بقنابل نووية لاستخدامها في تلك الحرب.(١٥) ولم تعترف فرنسا بأن هزيمتها العسكرية في الهند الصينية كانت تأكيداً لتراجع قوتها الحربية بشكل شامل، بل حاولت إلقاء أسباب الهزيمة على أكتاف الولايات المتحدة الأمريكية واتهمتها بأنها تعمدت تأخير الدعم العسكري لها، لأن واشنطن – حسب اعتقادها- كانت قد حسمت أمرها بتصفية النظام الدولي القديم الذي كانت تقوده فرنسا وبريطانيا(١٦)، ومن ثم كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لإيقاع الهزيمة العسكرية بالبلدين معاً، وهو ما تأكد لهما، بعد الضغط الأمريكي عليهما وعلى إسرائيل في حرب السويس عام 1956 واضطرار البلاد الثلاث للخضوع والخروج من الأراضي المصرية في النهاية.
وواقع الأمر أن تفسير السياسة الأمريكية حيال فرنسا في الفترة 1946-1956 بنظرية المؤامرة، هو ما عزز الصراع الثقافي بين البلدين، ففي حين أن باريس اعتبرت أن واشنطن تستهدف تقزيم دورها كقوة عالمية، وساعدت على هزيمتها في الهند الصينية والسويس، كانت الأخيرة تعتقد أن المشكلة الأساسية تكمن في عدم اعتراف الأولى بأنها لم تعد تمتلك الموارد والإمكانيات الضرورية لتكون قوة عظمى، والدليل على ذلك أنها هى التي أرادت الحفاظ على مستعمراتها في آسيا، وتلقت معونات أمريكية لتحقيق هذا الهدف، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تود أن تنتصر فرنسا في هذه الحرب ليشكل وجودها في الهند الصينية خط دفاع للتحالف الغربي في مواجهة القوتين الشيوعيتين الاتحاد السوفيتي والصين. بمعنى آخر، كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترى أنها منحت فرنسا كل الفرص لتثبت قدرتها على استعادة مكانتها كقوة عظمى، لتكون ركناً مهماً في الدفاع عن مصالح التحالف الغربي، ولكنها فشلت، وكان لزاماً على الولايات المتحدة الأمريكية أن تتحمل وحدها عبء حماية المصالح الغربية من التمدد الشيوعي هناك.(١٧)
إن محاولة استيعاب فرنسا لصدمة فقدانها قوتها العسكرية والاقتصادية ومن ثم تأثيرها السياسي على المسرح الدولي، قد تمخض عنها تقوية مكانة النخبة المثقفة (أدباء، فنانين، أكاديميين، فلاسفة) التي لم تستسلم لحقيقة أن فرنسا لم تعد قوة عظمى، وعمدت هذه النخبة إلى تعويض التدهور في القوة الصلبة الفرنسية بتقوية الدور الثقافي الفرنسي واختارت أن تنشط في اتجاهين: الأول، مناهضة الاستعمار كتطبيق مباشر لمبادئ الثورة الفرنسية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948.(١٨)، والثاني، مقاومة الهيمنة الثقافية الأمريكية التي أضحت أمراً واضحاً بعد الحرب العالمية الثانية. “فالثقافة بمرور الوقت تصنع السياسة، والثقافة هنا تعني كل السلوك الإنساني، وكذلك المؤسسات بما في ذلك التسلية الشعبية والفنون والدين والتعليم والنشاط الاقتصادي والعلم والتكنولوجيا والقانون والأخلاق”.(١٩)
بالتوازي مع ذلك، كان الجنرال ديجول الذي عاد للحكم في فرنسا عام 1958 قد بدأ في إدراك خطورة التراجع في القوتين العسكرية والاقتصادية لفرنسا خاصة بعد الهزائم التي تلقتها فرنسا في الهند الصينية وفِي حملة السويس، وعمل ديجول على تحويل الاضطرار الفرنسي للتخلي عن مستعمراتها السابقة إلى ميزة بادعاء أن الانسحاب لا يتم تحت ضغوط المقاومة من جانب الشعوب، بل لإيمان فرنسا بقيم الحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو ما طبقه في واحد من أكثر المستعمرات التي لم تكن فرنسا مستعدة للتخلي عنها وهى الجزائر (أعلن استقلالها عام 1962 )(٢٠). وفي إطار استراتيجية متكاملة للإبقاء على مكانة فرنسا كقوة عظمى اتبع الجنرال ديجول سياسة مستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية، كما شجع توجهات النخب الثقافية في فرنسا على مقاومة الهيمنة الثقافية الأمريكية.
فهل كفّلت مواقف الاستقلال عن السياسة الأمريكية، وشن الحرب على الثقافة الأمريكية ووصمها بالسطحية مقابل رقى الثقافة الفرنسية ومنتجاتها في الفن والأدب والعلوم الإنسانية والفلسفة، وغيرها، لفرنسا الإبقاء على نفسها كقوة عظمى عامة وقوة عظمى ثقافية خاصة ؟
تقييم المواجهات بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية
كانت آخر محاولات فرنسا لاستعمال القوة العسكرية وإمبراطوريتها الاستعمارية لكى تحافظ على مكانتها كقوة عظمى، أو بالأحرى لإنكار حقيقة فقدانها لهذه المكانة، قد تحققت بعد اضطرارها لمغادرة الجزائر والتخلي عن الزعم بأنها جزء لا يتجزأ من فرنسا. وتعتبر الحقبة من الستينات إلى الثمانينات في القرن العشرين هى الفترة التي كان يمكن أن تدعي فرنسا إنها قوة عظمي ثقافية، وبلد مستقل في سياساته عن الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن كل المواقف التي اتخذتها فرنسا في هذه الفترة حيال الممارسات السياسية والثقافية الأمريكية ربما تثبت أن فرنسا لم تستفد من هذه المواقف، بل أدى ذلك إلى تعزيز قناعة الولايات المتحدة الأمريكية بأن فرنسا تحاول التغلب على حقيقة فقدانها لمكانتها كقوة عظمى، بالوقوف بعناد أمام السياسات الأمريكية، وهو ما انعكس في الآونة الأخيرة في تجاهل الأولى للثانية في الترتيبات التي تُجرى لإعادة بناء النظام الدولي عبر إقامة تحالفات لمواجهة صعود الصين وتمدد روسيا في مناطق النفوذ التقليدية للغرب، كما عبّر عنه بوضوح التحالف الجديد (AUKUS) الذي أغضب فرنسا وأثار أزمة عنيفة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية.
ولتقييم السياسة الفرنسية حيال الولايات المتحدة الأمريكية منذ الستينات، سنعتمد على تحليل بعض المواقف التي اتخذتها فرنسا وبدت كأنها تستهدف تعويق السياسات الأمريكية.
1- عندما انسحبت فرنسا من الجناح العسكري لحلف الناتو عام 1966، كان التفسير الأقرب لهذه الخطوة هو رغبة الرئيس ديجول في تطبيق سياسته التي قامت على ثلاثة أسس: الوطنية الفرنسية، الاستقلالية، القوة العسكرية. ولكن هذه السياسة كانت ترتد بالأساس إلى العقدة الفرنسية التي تسببت فيها الحرب العالمية الثانية، أى شعور فرنسا بأنها لم تعد قوة عظمى بعد أن واجهت هزائم عسكرية كبيرة أثناء هذه الحرب وبعدها. ومن الناحية الواقعية كانت خطوة ديجول محسوبة بدقة، بحيث تمنح فرنسا الشعور بأنها ليست تابعاً للولايات المتحدة الأمريكية التي تهيمن على الناتو عملياً، وفِي نفس الوقت لا تتسبب في وقوع مخاطر أمنية على فرنسا كونها لم تنسحب من الجناح السياسي للحلف وبالتالي يظل الحلف قادراً على إنقاذها إذا ما كان هناك احتمال بوقوع مواجهة بين الكتلة الغربية والكتلة السوفيتية، خاصة وأن أغلب الخبراء الاستراتيجيين كانوا قد توصلوا إلى قناعة بعدم وجود احتمال لنشوب نزاع نووي، وبالتالي عدم وجود احتمال بوقوع صدام بالأسلحة التقليدية أيضاً. لقد كانت خطوة ديجول تلبي تطلعات الفرنسيين لإظهار استقلال بلادهم عن السياسة الأمريكية، ولكن حلمه بتكوين تحالف أوروبي تقوده فرنسا ليكون قوة عظمى بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي ظل حلماً بعيد المنال، ويبين بجلاء مدى محدودية التأثير الفرنسي، الذي كان يخوض معركته مع الولايات المتحدة الأمريكية بدوافع ثقافية محضة.(٢١) والدليل على ذلك أن فرنسا التي تركت الحلف تحت دعوى الاستقلال وقيادة أوروبا كقوة دولية مستقلة، عادت مرة أخرى للحلف عام 2009، دون أن تقر بفشلها في بناء هذه القوة، بل استمرت في الزعم بأن عودتها للحلف تستهدف بناء القوة الأوروبية المستقلة أو كما ذكر وزير الدفاع الفرنسي في ذلك الوقت إيرفيه موران أن عودة فرنسا إلى القيادة العسكرية لحلف الناتو من شأنها أن “تدفع بعملية إنشاء دفاع أوروبي إلى الأمام” من جهة، ومن جهة أخرى “أن تعطي لفرنسا فرصة جديدة للعب دور في تحديد استراتيجيه حلف الناتو”.(٢٢)
ولكن الجهد الفرنسي سواء لتكوين قوة أوروبية مستقلة، أو للعودة للناتو لقيادته أو التأثير في قراراته من خلال تكتل أوروبي، رغم فشله، قابله تجاهل من جانب الولايات المتحدة الأمريكية التي دأبت في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب على التقليل من شأن الحلف ومن شأن حلفائها الأوروبيين، وعلى عكس التوقعات بأن إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن ستسعى لإصلاح علاقاتها بحلفائها الأوروبيين، جاءت ضربة تشكيل تحالف “AUKUS” الموجهة لفرنسا تحديداً، بمثابة إشارة أمريكية بأنها لن تلتفت لسياسات دوافعها تكمن في الحرب الثقافية أكثر من الدوافع الاقتصادية والأمنية، وأنها (أى الولايات المتحدة الأمريكية) على استعداد لبناء تحالفات جديدة مع من يعرف حقيقة قوتها وحدود تأثيرها في التفاعلات الدولية.
2- يعرض هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق أحد المعارك التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية مع فرنسا، حيث كانت واشنطن في مطلع السبعينات تحاول تكتيل الحلفاء في مواجهة الاتحاد السوفيتي، فأطلق الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون عام 1973 مبادرة عرفت باسم “سنة أوروبا” وكان هدف المبادرة، وفقاً لكيسنجر، هو حث التكتل الأطلسي (الذي يجمع الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا) على البحث في أهداف الربع الأخير من القرن العشرين، وتوحيد الرؤى بين الجانبين، ولكن ما حدث أن “المبادرة نُظر إليها من الجانب الأوروبي – خاصة في فرنسا- باعتبارها خدعة أمريكية تستهدف إحباط وإعاقة انبعاث هوية أوروبية خاصة ومؤسسات أوروبية خالصة”.(٢٣)
وكان إفشال مبادرة “سنة أوروبا” بسبب قيادة فرنسا للمعارضة الأوروبية لهذه المبادرة، نموذجاً لتحركات فرنسية معارضة للولايات المتحدة الأمريكية، ويعتقد أن هذه المعارضة هى الهدف وفقط حتي لو لم تكسب فرنسا أو أوروبا شيئاً ملموساً من ورائها. ولكن ثمة مثلاً معاكساً عندما تتخلى فرنسا عن رسم سياساتها الخارجية وفقاً لثقافتها وتستبدلها بفهم للسياسة على أنها إدارة المصالح الآنية والمستقبلية، ويشير كيسنجر هنا إلى أزمة الطاقة التي عانتها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بعد صدمة ارتفاع الأسعار ونقص الإمدادات النفطية عام 1973 (نتيجة الحرب العربية الإسرائيلية في أكتوبر 1973)، حيث رأت واشنطن أن حل الأزمة يمكن أن يبدأ بتوحيد مواقف الدول المستهلكة والمستوردة للنفط قبل الشروع في أى حوار مع الدول المنتجة واقترحت واشنطن حينها إقامة وكالة دولية للطاقة، ولكن الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو رفض الاقتراح وطالب بدلاً من ذلك بإجراء حوار بين الدول المستوردة والدول المنتجة للنفط، ولكن خليفته فاليري جيسكار ديستان سرعان ما تنبه إلى خطأ الاستمرار في مواجهة السياسات الأمريكية، خاصة لو كانت هذه السياسات ليست منافسة للمصالح الفرنسية والأوروبية، وبالفعل قبل دستان بالفكرة الأمريكية التي تأسست على إجراء الحوار بين مصدري النفط والمستوردين بعد أن تتوافق دول التحالف الأطلسي على سياسة واحدة تجاه منتجي النفط.
ويقول كيسنجر: “تحول تضامن المستهلكين إلى حقيقة واقعة وكسب الجانبان كليهما، ولهذا السبب دام التعاون بينهما، فقد حصل ديستان على التزام أمريكي من حيث المبدأ بالحوار الذي اقترحه بين المستهلكين والمنتجين. وضمن الرئيس فورد تعاون فرنسا قبل اكتمال العناصر المفتاحية الثلاثة للاستراتيجية الأمريكية الخاصة بالطاقة القائمة على: الحفاظ على مخزون احتياطي، التشارك في حالة الطوارئ، التضامن المالي”.(٢٤)
3- قد تكون فرنسا قد حققت نصراً في حربها الثقافية مع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال قيادة المثقفين الفرنسيين خلال الستينات وحتي الثمانينات للحركات التي وقفت ضد الحرب الأمريكية في فيتنام، وضد السياسات الأمريكية في مناطق أخرى، ولكن الأمر المؤكد أن فرنسا لم تستفد كثيراً من نفاذة ثقافتها وتأثيرها الواسع على حركات الشباب في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. فمثلما ندمت فرنسا- الملكية على دعمها للثورة الأمريكية، بعد أن ألهمت مبادئ الأخيرة المعارضين للملكية في فرنسا وتسببت في إسقاطها (فرنسا الملكية) عام 1789، فإن ثورة الشباب التي بدأت في فرنسا عام 1968 والتي أسهمت أفكار العديد من الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين في توجيهها نحو المؤسسات والمجتمع الرأسمالي والحرب الأمريكية في فيتنام قد تسببت في أزمة لفرنسا ذاتها وأطاحت في النهاية بحكم الجنرال ديجول.
4- عارضت فرنسا بقوة الغزو الأمريكي – البريطاني للعراق عام 2003، وقادت الجهود الأوروبية والأمريكية لرفض منح الولايات المتحدة الأمريكية شرعية قانونية لشن هذه الحرب. ورغم أن ألمانيا وروسيا كانتا أيضاً من المعارضين للغزو، إلا أن كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن صرحت بأن الولايات المتحدة الأمريكية “ستسامح روسيا، وتتجاهل ألمانيا، وتعاقب فرنسا”.(٢٥). وقد عكس التصريح تفريقاً واضحاً بين ثلاثة دول تشاركت في رفض السياسة الأمريكية، ولكن فرنسا وحدها كانت هى التي ستواجه العقاب. فهل كانت مجرد صدفة أن يأتي الرئيس نيكولا ساركوزي عام 2007 ليعكس اتجاهاً كان مستمراً في السياسة الفرنسية منذ عهد ديجول، ويفرض على فرنسا إثبات أنها ليست تابعه للولايات المتحدة الأمريكية؟، أم أن وصول ساركوزي للسلطة في فرنسا كان مؤشراً على إدراك قطاع من النخبة السياسية الفرنسية بأن السلوك العدائي الفرنسي تجاه الولايات المتحدة الأمريكية لا يحقق المصالح الفرنسية، وأن هذا السلوك ربما كان مدفوعاً بعامل الصراع الثقافي معها وليس بالعوامل الطبيعية التي تحكم سياسات الدول (المصالح الاقتصادية، والأمنية على الأخص)؟.
ولكن من الناحية الموضوعية، يجب أيضاً الإشارة إلى أن قرار ساركوزي بعودة فرنسا لحلف الأطلنطي، وإن كان قد مثل إعلان إفلاس للفكر الديجولي الاستقلالي، إلا أن فرنسا في عهد ساركوزي- والتي حظيت بدعم أمريكي لإسقاط نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي عام 2011- فشلت في مهمة ضبط الوضع في هذا البلد الذي انزلق إلى الفوضى والحرب الأهلية وتصدير الإرهاب حتى الآن، وأعاد ذلك التذكير بالفشل الفرنسي الأقدم عندما هُزمت فرنسا في الهند الصينية رغم الدعم الأمريكي لها. بل تسبب الفشل الفرنسي في التنبؤ بمسار الأحداث في ليبيا عقب سقوط القذافي إلى انهيارات مماثلة في واحدة من أكثر المناطق التي تملك فيها فرنسا نفوذاً ثقافياً ووجوداً عسكرياً (منطقة الساحل والصحراء)، بما زاد من خطر انتشار الفوضى والإرهاب الذي يمكن أن يهدد أوروبا كلها. وحسب دراسة حديثة “لم تعد فرنسا الدولة المهيمنة اقتصادياً في منطقة الساحل والصحراء التي حاربت لكى تبعد عنها نفوذ الدول الكبرى المنافسة، فالصين والولايات المتحدة الأمريكية وحتى روسيا وتركيا تنافسها٬فرنسا قبلت أو اضطرت إلى قبول دور الشرطي وهو دور استفاد منافسوها منه، ولم تستفد هى، لأنها حصدت الكراهية٬باختصار الوضع كارثي، خاصة على الصعيد العسكري، حيث بيّن فيلم وثائقي أذيع على قناة فرنسية في شهر أكتوبر 2021، أن حالة القوات المساندة أو الاحتياط الفرنسية كانت سيئة للغاية، وأن ثُلثى طائرات الهليكوبتر التابعة للجيش الفرنسي في دول الساحل الأفريقي كانت مُعطَّلة”.(٢٦)
5- حتى في الصدام الثقافي المباشر، وليس الضمني، كانت فرنسا تخسر أمام الولايات المتحدة الأمريكية. فعندما ظهرت شبكة “نت فيلكس” كمنصة لترويج الأفلام والدراما وبرامج الترفيه، ذكر أحد التقارير الصحفية من باريس أن “فرنسا قلقة من هذا التمدد الأمريكي الجديد للهيمنة على المجال الثقافي، ومرة أخرى ينتاب أنصار الاستثناء الثقافي الفرنسي، خوف جديد من تراجع رموز إرثهم الحضاري، وهاجسهم الأول هو أفول نجم ما يسمى الإشعاع الثقافي الفرنسي أمام هيمنة رموز الثقافة الأمريكية”.(٢٧)
6- في الأزمة التي وقعت بعد إلغاء استراليا صفقة شراء غواصات فرنسية تم التوقيع عليها عام 2016، وتزامن ذلك مع توقيع استراليا على الاتفاق المسمى بتحالف (AUKUS) الذي يضمها مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بدا بوضوح أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكتف فقط بالتأثير على استراليا لإلغاء صفقة الغواصات الفرنسية، بل إنها تجاهلت فرنسا، ولم تقم بدعوتها للمشاركة في التحالف، والذي يستهدف أطراً متعددة، أهمها التعاون في تصنيع غواصات مُسيَّرة بالطاقة النووية، والعمل معاً لمواجهة صعود الوجود الصيني في منطقة “إندو-باسفيك”، والتطوير المشترك للعديد من تكنولوجيا المستقبل خاصة في مجالات الاتصالات وعلوم الفضاء وغيرها.(٢٨)
ومن دون شك، فإن ذلك أثار استياء فرنسا، على الأقل بسبب خسارة صفقة ضخمة لإنعاش صناعتها العسكرية، ولكنه أكد أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد طول تجارب ومواجهات مع فرنسا منذ الخمسينات من القرن العشرين، لم تعد تأبه للدور الفرنسي الذي أثبتت الوقائع مراراً أنه إما ينطلق من عداء له جذوره في المنافسة الثقافية بين البلدين، وهو أمر يمنع أى تقارب بينهما في السياسات والاستراتيجيات الكبرى بسبب حرص فرنسا على إثبات خصوصيتها واستقلالها، وإما أن إمكانيات فرنسا الذاتية لا ترشحها لتكون حليفاً مفيداً لواشنطن فيما يتعلق بعنصر القوة الصلبة. وفِي هذه الحالة وفِي الحالات السابق ذكرها بدا بوضوح عجز فرنسا عن التأثير على التوجهات الأمريكية سياسياً وعسكرياً وثقافياً، وهى المعضلة التي ستظل تطارد فرنسا، ما لم تتخل عن استخدام سلاح المنافسة الثقافية لتحديد توجهاتها الاستراتيجية.
سعيد عكاشه
مركز الاهرام للدراسات