يبدو أنّ المسؤولين الأميركيين الذين أوكلت إليهم مهمة إيجاد خطة لحل الأزمة السورية أو على الأقل التخفيف من تداعياتها الوخيمة، باتوا في وضع لا يحسدون عليه، فسوريا التي يبلغ عدد سكانها حوالي 23 مليون نسمة، أصبح مواطنوها يعيشون أوضاعا إنسانية مزرية للغاية في ظل وجود حوالي 7.5 مليون نازح في الداخل، بالإضافة إلى تقديرات الأمم المتحدة التي تقول بأنّ أكثر من 200 ألف شخص قد لقوا حتفهم في النزاع المسلّح الذي تشهده البلاد منذ حوالي أربع سنوات، وكذلك تقارير المرصد السوري لحقوق الإنسان التي تفيد بأنّ هذا الرقم يفوق الـ320 ألف قتيل.
خيارات متضاربة
نظرا لما بلغته هذه الأزمة الطاحنة التي تعيشها سوريا من تعقيدات كبرى، خاصة بعد التدخل الروسي على الأرض، وفشل الجهود التي بذلتها واشنطن من أجل تدريب وتسليح قوات المعارضة المعتدلة على الأرض، يبدو أنّه لم يعد أمام الولايات المتحدة الأميركية حاليا سوى أربعة خيارات رئيسية تتمثّل في:
* أولا محاولة احتواء الصراع والوقوف بشكل محايد، مما سيؤدّي حتما إلى سحق تشكيلات المعارضة السورية المسلحة على الأرض في ظل المساعدات العسكرية واللوجستية التي تقدّمها روسيا لنظام بشار الأسد السوري، وبالتالي ترجيح كفة هذا الأخير وحسم الصراع لصالحه على حساب إرادة غالبية الشعب السوري.
* ثانيا المواصلة في جهود تسليح المعارضة، وخاصة المقاتلين الأكراد على الحدود، بأسلحة أكثر فعالية مثل مضادات الطائرات ومضادات الدبابات، ودعم تلك الجهود بضربات جوية توفر لهم الغطاء.
* ثالثا أن تصطفّ واشنطن بشكل ضمني إلى جانب نظام الأسد وحلفائه، وخاصة إيران، في تدمير “الدولة الإسلامية”، مع ما يمكن أن يمثله ذلك من خطر مستقبلي على أمن المنطقة ومصالح واشنطن ذاتها، في ظل الطموحات التوسعية لإيران التي لا تتورع عن التدخل في شؤون بلدان الجوار العربي والعمل على إثارة الفوضى داخل مجتمعاتها باستخدام العديد من الميليشيات المسلحة الموالية لها.
في مواجهة الخيارات المتضاربة المطروحة أمام أميركا قد يكون السبيل الأكثر حكمة هو إعادة صياغة الرؤية بخصوص الحل
* رابعا التدخل العسكري المباشر على الأرض، مع إمكانية الدخول في ائتلاف يضم القوات الرافضة لبقاء بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا، وقصف دمشق بشكل مباشر وإسقاط النظام.
ولدى تحليل هذه الخيارات يتجلى أنّ الأوّل يواجه نوعا من الإحراج التاريخي للإدارة الأميركية جراء تجاوز الحكومة السورية للخطوط الحمراء في مرات كثيرة. ومع ذلك، نادرا ما يكون الحرج مبررا لإطالة أمد حرب أهلية دامية. وفي الواقع، يعتقد بعض الخبراء الاستراتيجيين والمحللين أن هذا هو أحد الدروس التي اعتبرت منها الولايات المتحدة بعد تورطها سابقا في فيتنام.
أمّا الخيار الثاني فهو يسهم في إطالة أمد الحرب الأهلية. وحتى الآن على الأقل، يبدو أنه من غير المحتمل أن يتمكن معارضو النظام المدعومين من قبل واشنطن من السيطرة بشكل فعال على الأرض، ويكون ذلك كافيا لفرض السلام عن طريق التفاوض. وفي الواقع، يرى عدد من المتابعين أنه كلما استمر سعير الحرب ملتهبا، كلما اكتسب المسلحون الأكثر رجعية والمعادين للغرب مزيدا من الزخم.
وفي ما يتعلق بالخيار الثالث، يرى المحللون أنه يتفق على الأقل مع ما يبدو أنّه رهان طويل المدى على التقارب بين واشنطن وطهران، وفق الاستراتيجية التي مضت على أساسها إدارة أوباما تجاه إعادة ترتيب القوى وصياغة التوازنات في الشرق الأوسط. لكن يجب على واشنطن الأخذ في عين الاعتبار أنّ أي نجاح استراتيجي للقوات العسكرية الإيرانية ولنظامها الثيوقراطي، الذي من غير المرجح أن يخفف قبضته على السلطة، سيعود على مصالحها سلبا كما أنه لن يكون محل ترحيب من قبل القوى الإقليمية الفاعلة وخاصة دول الخليج العربي التي تتوجس من هذا التقارب الأميركي الإيراني، ويبدو أنها بدورها بدأت تتحضر لأي تداعيات مستقبلية محتملة له.
التفكير في إنشاء مناطق آمنة على الحدود بين تركيا وسوريا يمكن أن يعتبر خيارا مختلفا تماما هذه المرة من حيث النجاعة
أمّا الخيار الأخير فهو يجبر الولايات المتّحدة مرة أخرى على التزام مفتوح تجد نفسها من خلاله محتشدة ضد القوى المتحاربة مع بعضها البعض في الوقت الراهن. وليس أمرا مستحيلا أن يتم تصور “استراتيجية خروج” مطلوبة من المعلقين، في جميع الاحتمالات، ويمكن أن يكون تقسيم سوريا في المستقبل نوعا من التفاوض بشأن وقف إطلاق النار، والحفاظ على الأمن، ولكن يبقى من الضروري وفق وجهة نظر واشنطن أن تتدخل القوات الأميركية بريا. ولكن يمكن أن يكون هذا الاختيار هو الأخطر نظرا لعواقبه المحلية والإقليمية المحتملة، حيث يمكن أن يؤدي ضغط الرأي العام الأميركي المصاب بخيبة أمل وإحباط من التدخلات الخارجية، إلى انسحاب قسري، كما أنّ احتمال وقوع اشتباكات مسلّحة مع روسيا قد يزيد من خطورة هذا الاحتمال.
إعادة صياغة الحل
في مواجهة هذه الخيارات المتضاربة المطروحة أمام الأميركيين، قد يكون السبيل الأكثر حكمة، وفق عدد من المحللين، هو إعادة صياغة الرؤية بخصوص الحل، وإعادة تكوين المشكلة من جديد والتعامل معها وفق المعطيات المستجدات الآنية الطارئة عليها. ولذلك ينبغي التوقف عن النظر إلى هذه المسألة السورية باعتبارها مشكلة الشرق الأوسط فحسب.
فأزمة اللاجئين السوريين أضحت تكتسب بعدا عالميا وقد انجرت عنها تداعيات شاملة لم يسبق لها مثيل، على الأقل في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، وقد كشفت هذه الأزمة اهتزاز دول حلف شمال الأطلسي أمام مؤسساتهم الدستورية.
وقد بات حلف الناتو يواجه العديد من المشاكل التي انجرت عن هذه الأزمة، وخاصة تركيا التي غزت طائرات مقاتلة روسية مجالها الجوي، أثناء مهاجمتها للتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا. وهو الوضع الذي يستوجب وفق ذات المحللين تدخّل الولايات المتحدة وباقي دول الناتو لحماية أحد أعضاء الحلف، إلى جانب العمل على تخفيف الضغط المتسبب في هجرة اللاجئين السوريين إلى حلفاء آخرين، والمساعدة في تخفيف العبء عليهم.
وتكمن المشكلة التي تحايث هذا السياق في أنّ تركيا لم تعد مستودعا للآمال الديمقراطية التقدمية التي يريد الغرب تركيزها في الدول الإسلامية، من خلال تقديم النموذج التركي. وفي الواقع، يبدو أن الركض خلف الديمقراطية “الملغومة المغلفة بالدين” قد أدى إلى تدمير الأساس العلماني للدولة. ونتيجة لذلك، دعم الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان تنظيم الدولة الإسلامية، الذي أصبح الآن يشن هجمات ضدّ بلاده، والذي يبدو أنه المسؤول عن الهجومين الانتحاريين الأخيرين في العاشر من أكتوبر الجاري في العاصمة التركية أنقرة. كما أنه قطع المفاوضات مع الأكراد، على الرغم من أنهم يمثلون القوات المقاتلة الأكثر فاعلية في المنطقة، والذين على غرار الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين يعارضون كل من نظام الأسد وداعش.
في هذه الحالة، يرى المحللون أن التفكير مجددا في إنشاء مناطق آمنة على طول الحدود بين تركيا وسوريا يمكن أن يعتبر خيارا مختلفا تماما هذه المرّة من حيث النجاعة، حيث أن الولايات المتحدة تمتلك الخبرة في إقامة مجال لحظر الطيران في المنطقة. لكن المشكلة القائمة، أنه وعلى غرار ما تمّ مواجهته في سربرينيتشا (البوسنة والهرسك)، فإنّ المناطق الآمنة يجب أن تقيمها قوات برية، أو أنها سوف تصبح حقولا للقتل. ولذلك يجب أن تفهم أميركا مرّة وإلى الأبد أنّ القوة الجوية وحدها، والتي يمكنها فرض منطقة حظر جوي، لا تستطيع حماية المناطق الآمنة. وعلى هذا الأساس، وإذا كانت واشنطن ما تزال تصرّ على عدم إرسال قوات تابعة لها على الأرض، بإمكان قوات الناتو، بما في ذلك القوات التركية والأميركية والبريطانية والفرنسية أن تقيم بشكل فعلي هذه المنطقة الآمنة للاجئين، وبإمكان تلك الخطوة من ثمّة أن تتطوّر لتصبح بمثابة البداية لحلّ مقلق بقدر ما هو واعد.
صحيفة العرب اللندنية