وفي الآن ذاته هذه الحرب تعبير جيد عن سم خارطة جديدة للمستقبل الكوني. فلم تعد الولايات المتحدة هي التي بيدها مقاليد العالم، فقد ظهرت بقوة قوى جديدة/قديمة، تؤكد حضورها، وتصر على القيام بدور حماية لمصالحها الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
لقد ظهر واضحا دور دول أوربا بقواها الثلاث الأساسية: بريطانيا وألمانيا وفرنسا، عبر الاتحاد الأوربي، وسعيها لفرض واقع جديد في سوريا، وفي المنطقة العربية، حيث يطالب الاتحاد باسقاط بشار كطاغية.
فيما صرح وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون بأن واحدة فقط من كل 20 ضربة لسلاح الجو الروسي في سوريا، تستهدف مقاتلي تنظيم داعش. حيث صرح لصحيفة “ذي صن” البريطانية إن “الاستخبارات البريطانية لاحظت أن 5% من الضربات الروسية استهدفت مقاتلي التنظيم المتطرف، وأن معظم الغارات قتلت مدنيين واستهدفت المعارضة المعتدلة لنظام بشار الأسد. وأضاف بأن التدخل الروسي أدى إلى تعقيد الوضع. فالروس برأيه يطلقون الذخائر على قطاعات يرتادها مدنيون، مما يؤدي إلى مقتل عدد منهم، وأنهم يطلقون ذخائر على قوات الجيش السوري الحر الذي يقاتل قوات الأسد، فروسيا تدعم الأسد وتطيل المعاناة. وصرح بأن حكومته ستطلب تمديد مشاركة بريطانيا في الحملة الجوية ضد تنظيم داعش، معتبرا أنه “من الخطأ أخلاقياً” عدم ضرب التنظيم في سوريا، حيث تشارك القوات البريطانية في ضرب داعش داخل العراق فقط، فضرب التنظيم برأي وزير الدفاع البريطاني يسمح بالوقاية من تهديد الهجمات الإرهابية على الأراضي البريطانية، ولا يمكن ترك ذلك للطيران الفرنسي أو الأسترالي أو الأمريكي.
أما الألمان فلديهم شكوك أيضًا حيال أهداف الضربات الروسية في سوريا، حيث انضمت برلين إلى الدول الغربية التي انتقدت الغارات الجوية الروسية في سوريا. وأعربت الحكومة الألمانية عن تشككها إزاء صحة البيانات الروسية بشأن أهداف الهجمات التي يشنها السلاح الجوي الروسي في سوريا. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية مارتن شيفر “بالنسبة للغارات الجوية الروسية المتواصلة، نرى أنه من المهم التوفيق بين الأقوال والأفعال”.
ومن الجانب الصيني، كان التوجه مختلفا وملتبسا. حيث اتهمت الصحيفة الرسمية للحزب الشيوعي الحاكم في الصين الولايات المتحدة وروسيا بالعودة إلى لعبة الحرب الباردة بالتورط في تدخل عسكري في سوريا زاعمة إن البلدين كليهما بحاجة الى إدراك أن ذلك العهد قد ولى ويجب عليهما أن يدفعا باتجاه محادثات سلام. فالولايات المتحدة وروسيا يبدو أنهما تستخدمان سوريا كساحة للمنافسة الدبلوماسية والعسكرية مثلما كانت الحال إبان الحرب الباردة. وكتبت الصحيفة في التعليق: “الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي استخدما شتى أنواع الأعمال الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية على أراضي دول ثالثة في منافسة للانتقام المتبادل لزيادة نفوذهما. مضيفة “إنه مشهد قديم من الحرب الباردة… لكننا الآن في القرن الواحد والعشرين والناس بحاجة إلى أن يتفادوا هذا”، هذا في حين تصوت الصين بشكل عام مع روسيا زميلتها الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن الأزمة السورية إلا أنها عبرت عن القلق من التدخل في الشئون الداخلية لسوريا ودعت مرارا إلى حل سياسي. وقالت صحيفة الشعب إنه يجب ألا يقف أحد موقف اللا مبالاة بينما سوريا تصبح ساحة لحرب بالوكالة، وينبغي عدم التراخي في المساعي الرامية للوصول إلى تسوية سلمية للأزمة. وأضافت قائلة “المجتمع الدولي وبصفة خاصة الدول الكبرى التي لها نفوذ كبير يجب أن تعترف بالحاجة الماسة والحيوية للوصول إلى حل سياسي للمشكلة السورية”. وحذرت الصين مرارا من أن التدخل العسكري لا يمكن أن ينهي الأزمة السورية.
ثانيا- المبررات
مبررات عديدة يرفعها المعلقون على الحدث، وتصرح بها السلطة الروسية، وتقدمها الدول الكبرى، في محاولة لتفسير ما يجري. ولكن الواقع إن التدخل الروسي يدعو ليس فقط للتعجب بل والحيرة. فلماذا في هذا التوقيت بالذات قامت روسيا دون غيرها بالقيام بهذه الضربات.
ربما يأتي على رأس الأسباب هو توسع التنظيم وتراجع الجيش السوري واحتلال التنظيم لمواقع هامة أثارت النظام السوري، وربما تدعو بالفعل لضرورة التدخل المباشر، طالما أن الضربات الأمريكية المزعومة لا تؤتي أكلها في العراق، خاصة وأن اللجوء إليها لن يؤدي لشيء وقد يطول، مما يترك الفرصة أمام التنظيم للتوسع.
وقد أصبح جليًا في أمريكا أن مقاطعة السلطة الروسية أمر غير ملائم، كما أنهم بحاجة إلى الإجابة عمّا يريده بوتين في سوريا؟ وتطرح العديد من الاحتمالات في هذا الصدد، على غرار: ما الهدف الذي يدفعه إلى الإبقاء على سلطة بشار الأسد، ولمَ سعيه إلى الاحتفاظ بالقواعد العسكرية هناك؟
إنه بفضل سوريا يصرف بوتين أنظار الغرب عن القرم والـ”دونباص”فلم يعد هناك ذكر لأوكرانيا، فقد اختفت كل الهيستريا حول “القطاع اليميني” الذي تعالت أصوات حتى زمن قريب تطالب بالتصدي له.كل شيء توقف واندثر كالهباء. تدير روسيا لعبة دبلوماسية بهدف العودة إلى منظومة الدول التي يمكن التحاور معها. وقد اصطدم أوباما بمشكلة أنه لن ينجح في القضاء على “داعش” من دون روسيا، ما يعني أن المقايضة مع روسيا أصبحت مناسبة الآن، بما في ذلك حول المد بعمر الأسد سياسياً ولو إلى حين، وكذلك الأمر بشأن المناطق التي يفرض العلويون عليها سيطرتهم وبشأن أمور ثانوية مرتبطة بأوكرانيا. بفضل هذه اللعبة الدبلوماسية المعقدة يحظى فلاديمير بوتين الآن بفرصة أكبر لتحقيق قدر ممكن من المكاسب.
أي أن المسألة تتوقف على لعبة دبلوماسية تتصل بعودة روسيا للساحة الدولية للعب دور أساسي في العالم. وإن كان هناك من يشير إلى احتمال تشكل تكتل حول روسيا يعيد أجواء الحرب الباردة بحسب الرؤية الصينية. والواقع أن هذا التصور غير دقيق، فهناك فارق أساسي بين المرحلتين. ففي المرحلة الأولى كانت روسيا دولة تمتلك نظاما اقتصاديا وسياسيا مختلفا عن النظام الأمريكي موقف العداء، وهو اختلاف عنيف عنفا شديدا، فهو ليس اختلافا في المصالح الاقتصادية بل وفي الأيديولوجيا. وقد تحالفت الولايات المتحدة مع الشيطان أملا في التخلص من الدب الروسي وكان لها ما أرادت.
ثالثا- رؤية المستقبل
لا بد من التأكيد مبدئيا على صعوبة المماثلة بين لحظتين: لحظة الحرب الباردة بما حملته من صراع أمريكي روسي جذري، واللحظة الراهنة. فروسيا والولايات المتحدة لا يختلفان في الممارسة الاقتصادية والتحالفات إلا في حدود ضيقة، وبالتالي فحدود الاتصال أقوى على غير ما نتصور من عوامل التفاوت والصراع. فالولايات المتحدة تستطيع التحالف مع المغاير لها سياسيا، بدليل تحالفها مع النظم الديكتاتورية في المنطقة العربية، ورفعها للشعارات السياسية وقت الأزمات، لكنها لا تستطيع أبدا الدخول في تحالفات قوية ومعلنة مع المغاير لها في مصالحها الاقتصادية. ومع ذلك يمكننا رصد نقطتين يفرضهما الماضي:
– أن الدب الروسي لن ينسى للقاعدة والولايات المتحدة دورهما في أفغانستان، وأن محاولات الجهاديين في القرم للتحريض ضدها، يعيد إلى ذهنها الماضي بمآسيه، فقد تحولت أفغانستان من بلد حديث إلى بلد يقع خارج التاريخ الحديث. ومن ثم من الممكن أن تشتغل الذاكرة الروسية، وتعيد المشاهد القديمة، فيكون الانتقام والثأر جزءا من العملية السياسية الحاصلة اليوم.
– أن التنظيمات”الجهادية”، تستغل الفوضى في مناطق النزاع والحروب، لذا فان خارطة الصراعات والحروب في منطقة الشرق الاوسط وافريقيا على وجه الخصوص، تكاد لا تخلو من وجود التنظيمات القاعدية، وهي تستثمر الشحن الإسلاموي ضد الأنظمة السياسية في المنطقة، من أجل فرض أيديولوجيتها وتعاليمها وخلافتها الإسلامية. ولعل الدب الروسي يضع في باله ما يسمى بإمارة “القوقاز” التي تم الاعلان عنها في 31 أكتوبر 2007 على لسان” دوكو عمروف” زعيم المقاتلين الشيشان، وتعتبر المصدر الرئيسي لإرسال المقاتلين الشيشان إلى سوريا. فروسيا تحارب الإرهاب كجزء من الذاكرة والحاضر، وإمارة القوقاز لا تستهدف أهدافا رخوة وسهلة وتتركز في المناطق المدنية فقط، بل تشارك في سوريا ولديها شبكة من علاقات العمل من التنظيمات الجهادية عبر العالم. فالذهاب إلى سوريا جزء من عمل روسي دؤوب لمواجهة الحركات الراديكالية المتطرفة.
– أن الحلم بالعودة إلى الصراعات القديمة والدور البارز في صناعة قرارات العالم، لا يزال قائما، خاصة أن النوستالجيا لا تهاجم الدب الروسي بمفرده، بل وتهاجم إيران وتركيا، مما يؤكد ضمنا الرغبة الأكيدة في إعادة تشكيل خارطة العالم، وكسر الواحدية فيه.
إن الموقف الأمريكي والأوربي سيكون محددًا، في حالة عدم قدرة روسيا على فرض أمر واقع جديد، بفرض عقوبات معنوية على موسكو مع استبعاد أي مواجهة عسكرية على الأرض، وما يرشح هذا الاحتمال هو أن سياسة أوباما تقوم على المهادنة، وهو يريد أن ينهي فترة حكمه بدون زج الولايات المتحدة بأي حرب جديدة. أما العامل الثاني الذي يدعم هذا هو أهمية الغاز الروسي إلى أوربا عبر أوكرانيا، وعلاقات الصداقة الرسمية والشخصية ما بين روسيا وألمانيا على وجه الخصوص. فأوربا لا تحتاج أن تعيش أزمة طاقة أو أزمة اقتصادية جديدة.
وعلى مستوى آخر فإن التدخل العسكري الروسي في سوريا لدعم الرئيس بشار الأسد في مواجهة المتطرفين أثار حرب أسعار النفط بين الكرملين والسعودية. فقد أشار الكاتب البريطاني أندرو كريتشلو في تقرير بإحدى الصحف البريطانية أن هناك توترات في أسعار النفط الخام. إذ يرى الكاتب البريطاني أن تدخل روسيا لا يتعلق فقط بدعم حليفها الرئيس السوري بشار الأسد، لكنه مثلما كان من قبل في الثمانينيات عندما تدخلت في أفغانستان، فإن النفط يلعب جزءا كبيرا من قرار الكرملين. وأضاف أن انهيار أسعار النفط، التي تسبب فيها حلفاء الولايات المتحدة فى المنطقة تشل الاقتصاد الروسي. وتعاني روسيا حاليا حالة ركود اقتصادي لأول مرة منذ عام 2009، فكما كانت الحال خلال الحرب الباردة فإن النفط يظل أكبر مصدر منفرد للدخل للبلاد. وإذا ما استمرت أسعار النفط في المتوسط أقل من 50 دولارا للبرميل في العام المقبل، فمن المرجح أن يبدأ الشعب الروسي بالتشكيك في قيادة الرئيس فلاديمير بوتين، التي وضعت البلاد على مسار تصادمي مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن أسواق النفط تجد فائضا في المعروض النفطي نحو 2 مليون برميل يوميا، فإن كلا من روسيا والسعودية ترفضان تخفيض الإنتاج، لذا فإن تدخل بوتين في سوريا هو محاولة لقلب الطاولة على إستراتيجية أمريكا التي تستهدف إفلاس موسكو. فتدخل روسيا المباشر في سوريا سوف يؤدي بجميع الأطراف المعنية بما فيها إيران، التي تم رفع العقوبات الاقتصادية عنها أخيرا، إلى حرب أسعار نفط عالمية تزداد عمقا واستمرارا.