د. معمر فيصل خولي
في الثاني من كانون الثاني/ يناير الحالي، اندلعت في جنوبي غرب كازاخستان مظاهرات جنوب غرب كازاخستان؛ احتجاجا على إعلان الحكومة الارتفاع الحاد في أسعار الغاز الطبيعي المسال. في دولة تعتبر من أهم الدول المنتجة للغاز في العالم، إضافة إلى كونها تملك احتياطيا نفطيا كبيرا يعادل احتياطيات العراق، ولعلّ هذه المفارقة الواضحة كانت السبب في أن الاحتجاجات الشعبية انطلقت في مدينة جناوزين، مركز صناعة النفط في كازاخستان.
قوة الاحتجاجات، وانتشارها السريع إلى أنحاء عديدة ومدن، بينها ألما آتا، العاصمة الاقتصادية للدولة، والطابع السياسي الذي اتجهت إليه، عناصر فاجأت السلطات الكازاخية فسارعت إلى إعادة أسعار الغاز إلى سابق عهدها، لكنها فوجئت مرة أخرى بأن الاحتجاجات لم تتوقف، رغم إعلان الرئيس قاسم توكاييف إقالة الحكومة وإعلان حالة الطوارئ في عدد من الأقاليم، بما فيها العاصمة نور سلطان.
لم يكن ارتفاع أسعار الوقود هو السبب الوحيد الذي أشعل هذه الاحتجاجات، وإنما مثّل غطاءً لمطالب اقتصادية وسياسية أخرى رفعها المتظاهرون، ويمكن توضيح هذه الدوافع على النحو التالي:
أولاً- ارتفاع أسعار الوقود: خفضت الحكومة الكازاخية من الدعم المقدم لغاز البترول المسال، وهو ما أدى إلى تضاعف سعره. ويلاحظ أن غاز البترول المسار يستخدم على نطاق واسع لتزويد السيارات بالوقود، نظراً لرخص سعره مقارنة بالبنزين، مما تسبب في احتجاجات على ارتفاع أسعاره في مدينة زاناوزن، ثم ما لبثت أن امتدت إلى باقي أنحاء البلاد.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تشهد هذه المدينة اضطرابات واسعة، فقد سبق وأن شهدت إضراباً لعمال النفط استمر لأكثر من ستة أشهر في عام 2011، وانتهى بمواجهة عنيفة حكومية أسفر عن مقتل 16 شخصاً على الأقل.
ثانيًا- تدهور الأوضاع الاقتصادية: تأتي الأزمة وسط تصاعد أزمة الاقتصادية، لاسيما في ضوء سيطرة عدد قليل من السكان على فوائد الثروة النفطية التي تتمتع بها البلاد. كما تتزايد مشاعر الإحباط جراء انخفاض الرواتب، وظروف العمل السيئة، والفساد المستشري لسنوات. وأثر ارتفاع معدلات التضخم سلباً على مواطني الطبقة العاملة والمتوسطة، خاصة أن الحد الأدنى للأجور يقل عن نحو 100 دولار أمريكي شهرياً.
وعلى الرغم من احتواء كازاخستان على 40% من الإنتاج العالمي من اليورانيوم، بل وتمتع الدولة باحتياطيات هائلة من النفط، مثل الفحم والمعادن النفيسة، فإن حوالي 162 شخص يستأثرون بـ 55% من إجمالي الثروة بالدولة، كما يعيش بالبلاد خمسة من المليارديرات المصنفين ضمن قائمة فوربس لأغنى رجال العالم.
ثالثًا- تراجع وعود الإصلاح السياسي: حرك المتظاهرون في البداية الأوضاع الاقتصادية الصعبة، غير أنها سرعان ما تحولت إلى مطالب بإصلاح شامل للحكومة. ووجه المتظاهرون غضبهم تجاه الرئيس السابق، نور سلطان نزارباييف، الذي على الرغم من تنحيه عن السلطة في 2019، بعد ثلاث عقود من الحكم، وتنصيبه لتوكاييف خلفاً له، فإن الأول احتفظ لنفسه بسلطات رئيسة باعتباره “زعيماً مدى الحياة”.
ويوجه العديد من المواطنين الكازاخ اللوم لنزارباييف لسماحه بانتشار الفساد، خاصة مع تصاعد ثروات بعض أفراد عائلته الذين أصبحوا أثرياء من خلال امتلاكهم حصصاً في شركات تجارية مهمة.
وعلى الرغم من وعود الرئيس توكاييف عندما تولى المنصب في عام 2019 بالإصلاح السياسي من خلال زيادة الحريات السياسية، والإصلاح القضائي، والقضاء على الفساد، فقد استمرت سياسات تحجيم المعارضة، وهو ما وضح في انتخابات كانون الثاني/ يناير 2021 النيابية، والتي أسفرت عن فوز ساحق للحزب الحاكم “نور أوتان”، مع فوز عدد محدود من المعارضين المواليين للحكومة.
ويمكن استعراض مواقف الدول الرئيسة، وتحديداً روسيا وتركيا، من الأزمة الكازاخستانية في التالي:
أولًا- التدخل الروسي العسكري: جاء التدخل الروسي ليكشف عن حرص موسكو على منع الثورات الملونة من الاقتراب من جوارها المباشر، حتى إذا استدعى ذلك التدخل العسكري من جانب موسكو، على غرار الدعم الروسي للرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، بعد اندلاع احتجاجات شككت في فوزه بانتخابات 2020.
ومن جانب ثانٍ، جاء التدخل الروسي الحاسم، نتيجة للمصالح الروسية الحيوية في كازاخستان، بدءاً من ميناء بايكونور الفضائي، الذي تتشارك فيه روسيا مع كازاخستان، وأوكرانيا، وصولاً لاعتماد روسيا على الغاز الكازاخستاني، في بعض الأحيان، عندما يتراجع الإنتاج الروسي.
وتعد كازاخستان مصدر عالمي رئيسي للنفط والغاز حيث إن لديها ثاني عشر أكبر احتياطيات، مؤكدة من النفط الخام في العالم، ويعتمد اقتصادها بشكل كبير على بيع الهيدروكربونات إلى كل من أوروبا وآسيا. وقد اعتادت على تصدير معظم هذه الموارد عبر خطوط الأنابيب الروسية.
سياسيًا، لن تقبل روسيا أي عدم استقرار سياسي داخلي في دولة مجاورة لها مثل كازاخستان والتي ترتبط معها بأطول حدود بين جميع جيرانها، يمكن أن يؤثر بشكل خطير على مصالح موسكو، وكذلك فإن موسكو استفادت من درس التجربة الأوكرانية، ولا تريد أيضًا تكرار مشهد الاحتجاجات في بيلاروسيا التي حصلت منذ شهور وكادت أن تودي بحكم حليف موسكو ألكسندر لوكاشينكو، وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكد مرارًا وتكرارًا على أن قواته مستعدة للدخول إلى بيلاروسيا ومساعدة لوكاشينكو بوجه الاحتجاجات التي يواجهها.
كما أن روسيا ستقاتل من أجل عدم خروج كازاخستان من دائرة نفوذها، لأن فقدان التأثير والنفوذ الروسي هناك يعني تغييرًا محتملًا للسلطة وبالتالي ستتوجه نحو حلفاء جدد بعيدًا عن روسيا، مثل أمريكا وأوروبا، كما أن نظام الحكم الحالي في العاصمة نور سلطان، لن يتخلى عن روسيا إذ أنها الأقرب إليه لمساعدته في وجه أي ثورة أو اضطرابات قد تودي به. ولعل مثال أوكرانيا قريبًا.
أما عسكريًا، يعد التدخل العسكري الروسي في كازاخستان ضربة كبيرة لمشروع تركيا القائم على إعادة تحريك روابطها التاريخية مع دول المجلس التركي. المشروع الذي يرتكز على سياسة هادئة وطويلة الأمد ترتكز على إعادة إحياء الروابط العرقية والدينية واللغوية والثقافية وأنه حقق تقدماً لافتاً في السنوات الأخيرة بتأسيس المجلس التركي الذي تطور لاحقاً ليصبح “منظمة الدول التركية” وبات يعتبر بمثابة تحالف سياسي واقتصادي يمكن أن يتحول تدريجياً إلى تحالف عسكري.
ثانيُُا- الدبلوماسية التركية: عقب سنوات طويلة من الدبلوماسية التركية الهادئة التي هدفت إلى إحياء النفوذ التاريخي في آسيا الوسطى بالتركيز على الروابط العرقية والدينية وتعزيز العلاقات الثقافية والاقتصادية والسياسية، جاءت الآلة العسكرية الروسية لتثبت مجدداً تفوقها في التنافس الروسي التركي على النفوذ في المنطقة الاستراتيجية المعقدة.
فبينما كانت تركيا تحاول فهم السياق العام للاحتجاجات التي تفجرت في كازاخستان من أجل اتخاذ موقف واضح للتحرك وإجراء اتصالات سياسية للعب دور في الأزمة التي تطورت بشكل سريع هناك، كان الجيش الروسي قد بدأ بالفعل في نقل دباباته وقواته العسكرية إلى العاصمة الكازاخستانية لتعيد المشهد إلى الوراء كثيراً وتظهر بشكل حاسم مدى فعالية سياسة الحسم العسكري الروسية أمام التحركات التركية الهادئة التي باتت توصف بـ”المترددة أو الخجولة”.
فخلال أول أيام الاحتجاجات، لم يصدر أي بيان أو تصريح رسمي من الجهات الرسمية التركية ولم تجري أي اتصالات أو تحركات رسمية، حيث فضلت أنقرة الانتظار والتروي لاتخاذ موقف “متوازن” من الأحداث التي تحمل في طياتها تعقيدات كبيرة تتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين والموقف الروسي من أي تحرك تركي في منطقة تعتبرها موسكو “حديقتها الخلفية” وجزء من أمنها القومي، بالإضافة إلى الخشية من تعقيدات الوقوع في فخ تصنيف أي موقف تركي لجانب الحكومة بأنه وقوف مع القمع والقتل وضد مطالب الشعب وهي جميعها حساسيات لا تضعها روسيا في اعتباراتها كثيراً.
وبعد تسارع وتيرة الاحتجاجات، أجرى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 6 كانون الثاني/ يناير الحالي، اتصالاً هاتفياً بنظيره الكازاخستاني، قاسم جومارت توكاييف، أعرب خلاله عن أمله في أن يتم تشكيل حكومة جديدة في كازاخستان، وإنهاء التوتر الذي حدث على خلفية التظاهرات في المناطق الغربية للبلاد، نتيجة الارتفاع الحاد في أسعار الغاز، وذلك في إطار عضوية الدولتين في منظمة الدول الناطقة بالتركية. كما تواصل أردوغان أيضاً مع زعماء الدول الأعضاء في المنظمة، للتأكيد على أن استقرار وأمن كازاخستان يشكل أهمية كبيرة للمنطقة برمتها، وفي مقدمتها دول الجوار.
وفي 11 كانون الثاني/ يناير الحالي،اجتمع وزراء خارجية منظمة الدول التركية بدعوة من تركيا، عبر تقنية الفيديو كونفرنس، وشدد البيان الختامي على الدعم الكامل والاستعداد التام لتقديم كل الإمكانات لمساعدة كازاخستان على تجاوز أزمتها، بما في ذلك دعم الإصلاحات التي تحدث عنها رئيسها، وصولاً لتحقيق استقرارها ورفاهيتها اللذين يرتبطان مباشرة باستقرار ورفاهية المنطقة ككل. ويلاحظ أن هذا الموقف لا يعدو أن يكون موقفاً دبلوماسياً، خاصة بعدما تمكنت موسكو من السيطرة على الأوضاع في كازاخستان. ربما قطع التدخل السريع لروسيا الطريق أمام تركيا للعب أي دور فعال في الأزمة الكازاخية، كما يتوقع ان تحجم موسكو أي محاولات تركية للتمدد في مناطق ذات أهمية استراتيجية كبيرة لموسكو، أو تمثل فناءً خلفياً لها.
ثمة دلالات مهمة تتجلى في الموقف التركي تجاه كازاخستان، فقد فتحت أزمة الاحتجاجات في كازاخستان النقاش حول علاقتها بتركيا، كون “أرض الكازاخ” إحدى الدول الكبيرة الناطقة باللغة التركية؛ فتركيا وكازاخستان تربطهما علاقات تاريخية وثيقة ومصالح كبيرة، لتشابه الثقافة والعرق واللغة بينهما، فضلا عن التبادل التجاري المتنامي. فقد كانت تركيا من أولى الدول التي اعترفت باستقلال كازاخستان عام 1992م، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، لذا تمثل كازاخستان أهمية كبرى بالنسبة لأنقرة.
فهي ترتبط تركيا بعلاقات اقتصادية قوية. ففي عام 2009، وقعت الدولتان اتفاقية شراكة استراتيجية، جعلت تركيا أحد أهم الشركاء الاقتصاديين لكازاخستان في آسيا الوسطى، كما وقعت الدولتان في الدولتان عام 2019م، 19 اتفاقية في مجالات مختلفة، وذلك خلال الاجتماع الحادي عشر للجنة الاقتصادية المشتركة بين الحكومتين التركية والكازاخية، والذي هدفت منه أنقرة إلى رفع التبادل التجاري بين تركيا وكازاخستان إلى 10 مليارات دولار سنوياً. كما أن هناك أكثر من 500 مشروع برؤوس أموال تركية – كازاخية في كازاخستان، فضلاً عن 160 مشروعاً برأسمال تركي.
كما أن الاهتمام بكازاخستان يأتي من كونها أحد أعضاء الرئيسة في منظمة الدول التركية التي تعد مشروع الغمق الاستراتيجي التركي في آسيا الوسطى، فهي تمثل أي كازاخستان والمنظمة لتركيا المتغير الجيو ــ سياسي اللازم الذي يمثل مفتاح السيطرة على العالم، فالتمركز في آسيا الوسطى يتيح الإطلالة الأكثر سهولة والأقل تكلفة نحو العمق الحيوي الروسي باتجاه الشمال، والعمق الحيوي الصيني باتجاه الجنوب الشرقي، علاوة على العمق الحيوي لشبه القارة الهندية باتجاه الجنوب والعمق الحيوي الإيراني باتجاه الجنوب الغربي، والعمق الحيوي لكامل منطقة بحر قزوين باتجاه الغرب، علاوة على أن السيطرة على موارد آسيا الوسطى تتيح التحكم في إمدادات النفط والغاز والمعادن والموارد الزراعية إلى روسيا والصين وشبه القارة الهندية ودول الاتحاد الأوروبي. والسيطرة على ممرات آسيا الوسطى تتيح السيطرة على الممرات البرية والجوية التي تربط بين شبه القارة الهندية وروسيا والصين”. وبالنظر إلى المصالح الاقتصادية والاستراتييجة، فإنه يمكن فهم الموقف التركي غير متصادم من الناحية العلنية مع روسيا من الأزمة الكازاخستانية.
لذلك، تبدو كازاخستان اليوم ساحةً لصراع بارد تركي روسي، تقدمت فيه موسكو على أنقرة بالتدخل العسكري الفوري، وإن كانت تركيا ترتبط بكازاخستان عبر الشعب واللغة والثقافة فإن موسكو التي لا تعترف إلا بلغة القوة ترتبط بنظام حاكم وهو كل ما تريده موسكو من أجل أن تظل كازاخستان تحت قبضتها دون أن تتحول لأوكرانيا جديدة، لكن تركيا لن تترك الأمر وتسلم بهذه البساطة لموسكو، وموسكو لن تسمح أن تكون كازاخستان هي أوكرانيا أخرى.
ومع التحولات الأخيرة التي أفرزتها أزمة كازاخستان، يتوقع أن ينشط التنافس التركي الروسي على النفوذ في آسيا الوسطى ودول المجلس التركي بشكل خاص التي ما زالت تمتلك روسيا الكلمة العليا فيها سياسياً وعسكرياً، إلا أن تركيا تبقى تعول على عمق جذورها العرقية والتاريخية هناك، وترى في سياساتها الهادئة أرضية مهمة لتغيير ولو طفيف وتدريجي سيحقق نتائج أكبر في السنوات والعقود المقبلة.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية