تعكس السجالات التي عرفتها إيران مؤخرا بسبب تصريحات آية الله العظمى الصافي الكلبايكاني، الذي يُعد أحد أكبر رجال الدين في البلاد، التوجس لدى النظام بقيادة المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي من خروج رجال الدين عن السيطرة بشكل نهائي ورفض تأييد سياساته لدى الشارع، علاوة على وجود معضلات أخرى يواجهها تتعلق أساساً بوجود رجال دين موالين بشكل تام للنظام في ظل شيخوخة “رجال الدين الثوريين”.
طهران – يُحيل الجدل الذي هز إيران مؤخرا بشأن تصريحات آية الله العظمى الصافي الكلبايكاني، الذي يُعد أحد أكبر رجال الدين في البلاد، إلى خطر بات يُثير توجسا متناميا لدى النظام بقيادة المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي وهو خروج رجال الدين عن السيطرة.
ويتمتع هؤلاء بنفوذ واسع ومكانة مميزة في إيران بعد أن عرّفت الأخيرة نفسها بأنها جمهورية إسلامية، لكن مواقف بعض رجال الدين التي تصطدم مع رؤية خامنئي للأشياء بدأت تثير تساؤلات بشأن تصادم محتمل خاصة في ظل الانتقادات التي لم يتردد المتشددون في توجيهها إلى رجال الدين المذكورين.
فجوة عميقة
خلال لقائه برئيس مجلس النواب محمد باقر قاليباف في قم أعرب الكلبايكاني عن قلقه إزاء المشاكل الاقتصادية في البلاد، ولم يقتصر على ذلك حيث اقترح أن تتجه إيران نحو إقامة علاقات مع جميع دول العالم “بكرامة”.
وأضاف الكلبايكاني، الذي يحمل لقب مرجع وهو أعلى لقب في الحوزات الشيعية ويشير إلى فقيه مؤهل له سلطة إصدار حكم رسمي أو تفسير في القضايا الدينية، أنه “ليس من الصواب أن تكون عابسًا مع دول كثيرة، فهذا يضر بالشعب”.
تصريحات الصافي الكلبايكاني فجرت جدلا واسعا في خطوة تعكس تعمّق الفجوة بين رجال الدين والنظام الإيراني
ويحظى الكلبايكاني بمكانة مميزة في إيران حيث سبق له أن شغل لمدة ثماني سنوات منصب سكرتير لمجلس صيانة الدستور المسؤول وفقًا للدستور الإيراني عن المصادقة على التشريعات البرلمانية أو رفضها وكذلك الموافقة على المرشحين للانتخابات الرئاسية والتشريعية.
ومنذ عام 1993 كان الصافي الكلبايكاني أحد أكثر رجال الدين نفوذًا في إيران، وبينما يبلغ من العمر 102 عام، فهو يعد بذلك المرجع الأكبر سنّا في البلاد.
وفجرت تصريحاته جدلا واسعا حيث لم تتردد صحف موالية لخامنئي ومقربة من المتشددين في انتقاده، في خطوة تعكس وفقا لمراقبين تعمّق الفجوة بين بعض رجال الدين والنظام الإيراني.
وانتقد على سبيل المثال موقع “رجا نيوز” الذي يعد مقربا من منظمة متشددة موالية للنظام تسمى “جبهة ثبات الثورة الإسلامية” والتي تشكل فصيلًا قويًا في البرلمان، بشدة تصريحات الكلبايكاني، مشيرا إلى أنها قد تندرج في سياق تلك التصريحات التي يصفها المرشد الأعلى بالعلمانية.
وقالت الباحثة السياسية الإيرانية ماري عبدي إن الانتقادات للكلبايكاني ومدينة قم المقدسة بشأن العلمانية تُظهر “المخاوف القديمة بين مساعدي المرشد الأعلى بشأن ما يشيرون إليه على أنه انتشار للعلمانية في الحوزة أو في المعاهد الدينية الشيعية”.
وبالفعل كان خامنئي قد أعرب في اجتماع مع مجموعة من رجال الدين في قم في الخامس عشر من مارس 2016 عن قلقه بشأن الجهود الرامية إلى “إلغاء الثورة في الحوزة”.
وشدد على أنه “إذا أردنا أن تظل الحكومة الإسلامية إسلامية وثورية في نفس الوقت، فيجب أن تظل الحوزة ثورية، وإلا فإن الحكومة ستكون في خطر الانحراف عن مبادئ الثورة”. كما وصف المواجهة مع الولايات المتحدة بأنها من تلك المبادئ وحذر من التشكيك بها في الحوزة.
كما وصف آية الله خامنئي في خطاب آخر ألقاه في التاسع من يناير 2019 مدينة قم المقدسة بـ”مركز الثورة وأمها” وحذر من مساعي الأعداء “لإضعاف الروح الثورية والدينية في المدينة”.
وتقول عبده في مقال بموقع “معهد ميدل إيست” إن “تعليقات أحمد واعظي ذات الطبيعة السياسية والاجتماعية لمخاوف آية الله خامنئي بشأن العلمانية في الحوزة تُظهر القلق الرئيسي للمرشد الأعلى من مواقف رجال الدين الذين لا يشاركون في القضايا السياسية والاجتماعية لدعم النظام الإسلامي. بعبارة أخرى، عندما ينتقد أنصار آية الله خامنئي العلمانية في الحوزة، فإنهم في الواقع يطالبون رجال الدين بالتدخل في الشؤون السياسية لتأكيد موقف المرشد الأعلى”.
تُشكل شيخوخة رجال الدين معضلة أخرى تواجه النظام الإيراني، فالدور الحاسم الذي يلعبه هؤلاء والذين يشغلون مناصب حساسة في الدولة يُحتم وجود عدد كبير منهم موالين تماماً لخامنئي وحكومته.
ويشغل رجال الدين مناصب عليا في القضاء. وتشمل هذه المناصب رؤساء السلطة القضائية والمحكمة الدينية الخاصة وهي مناصب يعين شاغلوها المرشد الأعلى، علاوة على رئيس المحكمة العليا والمدعي العام ورئيس المفتشية العامة وكل هؤلاء يعينهم رئيس السلطة القضائية في البلاد.
ولا تقتصر الوظائف التي يشغلها رجال الدين على المناصب المذكورة حيث يُعد 6 من أصل 12 عضوا في مجلس صيانة الدستور فقهاء شيعة يعينهم المرشد الأعلى، بينما يشغل المقاعد الأخرى محامون يرشحهم رئيس السلطة القضائية ثم يصوت عليهم البرلمان.
وفي مجلس الخبراء، وهو المسؤول رسميًا عن الإشراف على أداء المرشد الأعلى وتعيين المرشد التالي، جميع الأعضاء هم أيضًا من الفقهاء على الرغم من أن هذا المجلس لا يشرف فعليًا على أداء خامنئي.
كما يعد الاثنان اللذان يحتلان أعلى منصبين في أجهزة المخابرات الإيرانية من رجال الدين أيضًا. فبموجب القانون يجب أن يكون وزير المخابرات المعين بناء على توصية من الرئيس وبموافقة المرشد الأعلى فقيهًا شيعيًا. ورئيس جهاز استخبارات الحرس الثوري الإيراني الذي أنشأه المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي في عام 2009 هو أيضا رجل دين.
وتثير شيخوخة رجال الدين الثوريين مخاوف جدية لدى النظام.
شيخوخة رجال الدين معضلة أخرى تواجه خامنئي، فالدور الذي يلعبه هؤلاء يُحتم وجود عدد كبير منهم موالين للنظام
ولا يزال أحمد جنتي (95 عامًا) يشغل منصبين حكوميين رئيسيين هما رئيس مجلس الخبراء وسكرتير مجلس صيانة الدستور (أهم منصب في المجلس). كما أن محمد يزدي الذي توفي في التاسع من ديسمبر 2020 عن عمر يناهز 89 عامًا ظل عضوًا في مجلس صيانة الدستور حتى شهر قبل وفاته عندما استقال هو بنفسه.
كما أن العديد من المراجع الشيعية في إيران من المتقدمين للغاية في أعمارهم حيث يبلغ الكلبايكاني وآية الله حسين الوحيد الخراساني (اثنان من أكثر المراجع الشيعية نفوذًا في إيران) على سبيل المثال 102 و100 عام على التوالي. كما يبلغ آية الله حسين نوري الهمداني وآية الله ناصر مكارم الشيرازي (أقرب مرجعية للمرشد الأعلى) 96 و95 عامًا. وجميع هؤلاء دخلوا الحوزات الشيعية قبل ثورة 1979، بينما لم يصبح أحد من بين طلاب الحوزة الذين بدأوا دراستهم بعد الثورة مرجعًا بعد.
وعندما يموت هؤلاء المقيمون في إيران سيضعف موقع حوزة قُم بالمقارنة مع حوزة النجف في العراق، وهي المركز الرئيسي الآخر للدراسات الدينية الشيعية والذي قد يعتبره الكثيرون المركز الأكثر بروزًا، مما يعد تحولًا ليس في صالح السلطة الدينية للجمهورية الإسلامية في العالم الشيعي الأوسع.
وعلى الرغم من العدد الكبير من رجال الدين والميزانيات الضخمة التي يخصصها للحوزات، يواجه النظام الإيراني حالة من الشك حيال مستقبل كليهما.
وتقول عبده إنه “مع استمرار تقدم رجال الدين في السن، يمكن في نهاية المطاف تسليم العديد من المناصب الدينية والحكومية الرئيسية إلى رجال دين غير موثوقين قد لا يؤيدون المبادئ التي وضعها المرشد الأعلى خامنئي، مع عواقب لا يمكن التنبؤ بها على مستقبل الجمهورية الإسلامية”.
وتُضيف “لا نعرف إلى متى ستستمر الجمهورية الإسلامية في إيران، لاسيما بالنظر إلى التحديات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية المتزايدة في السنوات الأخيرة. ولكن حتى لو استطاع النظام البقاء لفترة طويلة بعد خامنئي، فإن الخلاف الداخلي وقاعدة السلطة الضعيفة بين رجال الدين سيجعلان هيكله أكثر عرضة للانهيار”.
ويرى محللون أن هذه المعطيات تجعل النظام الإيراني يواجه تهديدا وجوديا لاسيما أن المرشحين لخلافة خامنئي ليس لهم تأثير قوي على السلطات.
العرب