فتح عمود رأي نشرته صحيفة «لوبس» الفرنسية الباب لنقاش واسع لأنه اعتبر أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لديه «عبقرية شريرة» حقق عبرها «معجزة» أثبت فيها أنه «سيد رقعة الشطرنج» الأوروبية وربما العالمية، فبعد أن كانت روسيا، خلال رئاسة بوريس يلتسين، أضحوكة العالم، ورغم أن حجم اقتصاد البلاد هو أقل من حجم اقتصاد إسبانيا، فقد صار بوتين يتفاوض وجها لوجه مع الرؤساء الأمريكيين على مستقبل القارة الأوروبية.
يضاف إلى ذلك تدخّلات روسيا المعروفة في كثير من مناطق العالم، سواء التي تخضع مباشرة لنفوذ موسكو، كما هو الحال في بيلاروسيا وأبخازيا وكثير من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، كما رأينا في تدخلها العاجل لقمع انتفاضة الكازاخيين مؤخرا، عبورا إلى إيران وميانمار وكوريا الشمالية وسوريا (التي أصبحت أشبه بمحميّة روسية ـ إيرانية) وصولا إلى ليبيا والسودان ومالي في أفريقيا وفنزويلا وكوبا وغيرها في أمريكا اللاتينية.
إلى هذه التدخّلات العسكرية التي وسعت مجال الجغرافيا السياسية الحيوية لروسيا، انضافت آلة حربية غير رسميّة تشكّل شركة «فاغنر» قوامها الأساسي، وشبكة كبيرة من الجواسيس الجاهزين لتنفيذ اغتيالات في أي بقعة من العالم، بما فيها مدن الغرب، وآلة إعلامية كبيرة لتأمين «القوة الناعمة» التي تبرّر السياسات الروسية، وتفند سياسات خصومها، وجهاز أمني رقميّ مخصص للمراقبة والتجسس والقرصنة والتدخّل في الانتخابات الدولية، ووجدت هذه الآليات كلّها حواضن سياسية واجتماعية مهمّة في الولايات المتحدة الأمريكية، على شاكلة ما رأيناه من علاقة «خاصة» بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبوتين، وتمثّل أحزاب اليمين العنصريّ والفاشيّ مجالات كبيرة لتدعيم صورة بوتين، وكذلك بعض أقسام اليسار التقليدي، الذي يعتبر روسيا الحالية امتدادا للاتحاد السوفييتي الشيوعي السابق.
في الوقت الذي يقمع فيه بوتين المعارضة السياسية ويعتبر المنظمات التي تدافع عن حريات التعبير وحقوق الإنسان مؤسسات عميلة للخارج، فإنه يستغل الحريات السياسية والتعبيرية والأكاديمية التي توفّرها الأنظمة الغربية لمواطنيها وسكانها لتوطيد قوّته داخل تلك النظم، عبر الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة واليسارية التقليدية، والأغرب من ذلك أن مقربين له يستفيدون من ثغرات النظم المالية في العالم، لحفظ واستثمار أموال الفساد السياسي خارج روسيا، على ما أظهرت وثائق «باندورا» وغيرها.
إضافة إلى الاستفادة مما يعتبره «نقاط ضعف» في النظم السياسية الغربية، فإن بوتين، بممارسته ما يشبه «الروليت الروسية» لدفع العالم نحو قمة كارثة غير مسبوقة، يستغل بوتين ميلا هائلا لدى الشعوب الغربية لاعتبار الحروب العالمية شأنا يتعلق بأرشيفات التاريخ ووثائقياته، وهو أمر تجتمع فيه الرغبة في السلام، والإيمان بفاعلية الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية، مع الرعب من التكاليف الإنسانية والاقتصادية الهائلة للحروب.
يقف بوتين، عمليا، على قمة «مجد» كبير للاستبداد والاستعمار والاستهانة بحقوق الشعوب، والميل الغريزي لقمع الاحتجاجات الشعبية، وتسانده في هذه الرؤية عدد كبير من النظم السياسية التي يرغب بعضها، كما هو حال الصين، في البناء على سياسات الضم والقضم والتدخل، كما جرى في التيبت ويجري التخطيط له نحو تايوان، وحال إيران التي تفاخر بعض قادتها العسكريين بأنها امبراطورية لديها أربعة جيوش عربية تساند سياساتها.
لهذه الأسباب كلّها، فإن بوتين، على الأغلب، يسخر في سرّه، من التهديدات التي يطلقها قادة الغرب، ويحاول، عبر دفع الأمور نحو سيناريو كارثي، أو عبر استخدامه احتمال التوغّل في أوكرانيا، بعد سيطرته على القرم ومناطق أخرى، لاختبار مكامن «الضعف» و«التردد» التي يراها في الغرب، ويستغلها إلى أقصى ما يمكن.
القدس العربي