من بين أمور أخرى، تعارفت القارة الأوروبية بعد حروب عالمية مدمرة وتحولات صعبة نحو الحكم الديمقراطي على أن استقرار دولها وحكوماتها يرتبط باستقرار الدساتير التي تنظم حقوق وحريات وواجبات المواطن وتحدد سلطات ومهام المؤسسات العامة وأدوار المؤسسات الخاصة. لا يعني استقرار الدساتير عدم جواز تعديلها الجزئي أو تغييرها الكامل، فهي ليست بالنصوص المقدسة. توضع الدساتير في لحظات مجتمعية وسياسية تحدد هويتها وتؤثر على تفاصيلها، وقد يستدعي تبدل الظروف المجتمعية والسياسية إعادة النظر في الدساتير باتجاه التعديل أو التغيير. غير أن لإعادة النظر في الدساتير الأوروبية العديد من الشروط التي يأتي من بينها ضرورة الحفاظ على ضمانات حقوق وحريات المواطنين وضرورات التوازن والرقابة بين المؤسسات العامة (السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية) واستقلالية المجتمع المدني والقطاع الخاص.
في هذا السياق، ثمة فوارق جوهرية في أوروبا بين الديمقراطيات وبين الحكومات السلطوية الجديدة التي باتت تسيطر على بلدان عديدة من روسيا إلى بولندا فيما خص التعامل مع الدساتير. عادة ما تسعى الديمقراطيات إلى تطبيق الأحكام والاشتراطات والضمانات الوارده في دساتيرها وتختبر عن كثب طرق إدارة المواطنين والمؤسسات العامة والخاصة لحياتهم ومهامهم وفقا لها قبل أن تمس الدساتير بالتعديل أو التغيير. كما أن الديمقراطيات عادة ما تميز بين الدساتير التي يندر أن تمتد إليها أيادي الحكومات والبرلمانات وبين القوانين التي يتكرر تعديلها واستبدالها إن استجابة لتطلعات المواطنين أو لأسباب تداول السلطة بين قوى سياسية لها أولويات وبرامج مختلفة. أما الاقتراب من الدساتير، فلا يحدث في الديمقراطيات إلا حال حدوث تحولات مجتمعية وسياسية جذرية وحضور رأي عام كاسح يرى ضرورة مناقشة النصوص الدستورية لتقرير مدى ملاءمتها للواقع الجديد أو حتمية تعريضها لآليات التعديل والتغيير. وعادة ما يضطلع الإعلام الحر وتضطلع البرلمانات المستقلة في الديمقراطيات، ودون ضغوط من الحكومات، بمهمة إدارة نقاشات واسعة حول الدساتير والانفتاح على حوارات وطنية حقيقية إن بشأن تعديلاتها المقترحة أو مقتضيات تغييرها بوثائق دستورية جديدة لا تنتقص من حقوق وحريات المواطنين ولا تخل بالتوازن والرقابة المتبادلة بين المؤسسات العامة وتدعم فاعلية المؤسسات الخاصة. فقط، في مراحل ضعف وتراجع الديمقراطيات قد تنزع الحكومات إلى التلاعب بالدساتير وفقا للأهواء السياسية.
في المقابل، تتعامل الدول والحكومات السلطوية الجديدة في أوروبا مع الدساتير بانتقائية واستخفاف. أما الانتقائية فترتبط بالتعامل مع الأحكام والاشتراطات والضمانات الدستورية، فبينما يطبق منها ما يقر للحكومات والمؤسسات التنفيذية سلطاتها وصلاحياتها العديدة يتجاهل تطبيق النصوص المتعلقة بحقوق وحريات المواطنين والتوازن والرقابة المتبادلة بين الحكومات والبرلمانات والمؤسسات القضائية. وأما الاستخفاف فسببه هو نزوع المستبدين إلى تعديل وتغيير الدساتير كلما استدعى البقاء في الحكم ذلك أو فرضته الرغبة في تخليص النصوص الدستورية من المضامين الديمقراطية التي تقيد سياساتهم وممارساتهم. لذا تصير الدساتير في الدول والحكومات المستبدة إما دساتير لا تطبق منها لا أبواب الحقوق والحريات ولا النصوص الضامنة لاستقلالية البرلمان والقضاء وللرقابة على الحكام أو دساتير يتكرر تعديل وتغيير موادها المتعلقة بسلطات وصلاحيات وفترات الرؤساء (أو رؤساء الوزراء) حتى تتغول الأولى (السلطات) وتلغى القيود الواردة على الثانية (الصلاحيات) وتقبل الثالثة الإطالة دون سقف زمني نهائي.
ضرورة الحفاظ على ضمانات حقوق وحريات المواطنين وضرورات التوازن والرقابة بين المؤسسات العامة (السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية) واستقلالية المجتمع المدني والقطاع الخاص
وعادة ما تراوح الدول والحكومات المستبدة بين إنكار تعاملها الانتقائي مع الضمانات الدستورية للحقوق والحريات وضمانات استقلال البرلمانات والمؤسسات القضائية وبين تبريره بالضرورات الوطنية التي يروج زيفا لكونها تلزم بإعطاء الأولوية لحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية قبل الالتفات إلى الحقوق السياسية والحريات المدنية أو تقتضي إطلاق سلطات وصلاحيات الحكام. وعادة ما تبرر الدول والحكومات المستبدة استخفافها بالدساتير ونزوعها إلى التلاعب بها إن بزعم حدوث تغيرات مجتمعية وسياسية جذرية هي وحدها التي تراها أو بتصوير بقاء الحاكم في منصبه كالشرط الجوهري لإنقاذ الوطن من أخطار الفوضى وتخليص الدولة من الوهن والمجتمع من التخلف والمواطن من العوز أو بالتقليل من أهمية استقرار الوثائق الدستورية بالترويج لمقولة «ليست الدساتير بالنصوص المقدسة» وهي هنا كلمة ظاهرها الموضوعية وباطنها تمرير الانتقائية والاستخفاف.
من جهة أخرى، تشترك الحكومات السلطوية الجديدة في أوروبا فى إهدارها لقيمتي حكم القانون الأساسيتين. القيمة الأولى هي قيمة العدل المستندة إلى موضوعية القواعد القانونية وشفافية إجراءات التقاضي وضمانات حقوق الإنسان والحريات، والقيمة الثانية هي قيمة المساواة المستندة إلى امتناع المحاكم عن التمييز بين المواطنين وإقدامها على محاسبة المؤسسات العامة والخاصة حين تتورط فى ممارسات تمييزية. وعلى الرغم من القواسم المشتركة بينهم، إلا أن السلطويين ليسوا دائما على حال واحد فيما يتعلق بتفاصيل وطرق تعاطيهم مع المؤسسات القضائية وتوظيفهم لأداة التشريع ـ أي إصدار القوانين الجديدة وتمرير التعديلات على القوانين القائمة – لإدارة شؤون الدولة والمجتمع والمواطن، وحدود الالتزام بتنسيب قراراتهم وسياساتهم وبغض النظر عن مضامينها إلى «القوانين واللوائح المعمول بها» بحيث تصطنع صورة الحكم المحترم لسيادة القانون في قارة أوروبية ترفع جماعيا شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
فنجد أن قليلا من الحكومات السلطوية الجديدة في أوروبا، كما تدلل أحوال روسيا البيضاء اليوم، لا ينكر عداءه الصريح لوجود مؤسسات قضائية مستقلة، ولا يتوقف عن التغول على المحاكم والتدخل فى أعمالها بطرق شتى.
أما العدد الأكبر من سلطويي أوروبا الجدد، من روسيا إلى حكومات المجر وبولندا وسلوفاكيا، فيصر على احترامه لسيادة القانون ويعلن على رؤوس الأشهاد امتناعه عن التدخل فى أعمال المؤسسات القضائية والمحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها. تشدد تلك الحكومات أيضا على أن القضاء المستقل يمثل فرض ضرورة لتحقيق استقرار الدولة والمجتمع، ولا تمانع أن يتم النص دستوريا على استقلال المؤسسات القضائية وحياد القضاة وإرساء مبادئ الفصل والتوازن بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. غير أن تواتر إعلانات النوايا الحكومية الحميدة وحضور الضمانات الدستورية القاطعة لا يحولان دون السعي المستمر للسلطويين المعاصرين في أوروبا إلى استتباع القضاء وإخضاعه إلى أهوائهم، تماما مثلما يضغطون على المؤسسات التشريعية لتقزيمها إلى برلمانات دورها الوحيد هو تمرير مشروعات القوانين التى تطرحها الحكومات والموافقة على قرارات وسياسات الحكام دون إعمال جاد ومستقل للأدوات الرقابية.
لا تريد حكومات روسيا والمجر وبولندا وسلوفاكيا أن تبدو كحكومات مستبدة تنتهك القوانين وهي تقمع وتتعقب المجتمع المدني وتمارس التعقب والضبط باتجاه المواطن. لا ترغب أيضا في إظهار العداء الصريح للمؤسسات القضائية والبرلمانات المستقلة، وهي تسيطر على حصني سيادة القانون والحرية.
القدس العربي