لندن – يراقب متابعون باهتمام توسع سياسات الصين في الشرق الأوسط التي انقلبت من الحذر الشديد إلى التعاون والاستثمار، وهو الأمر الذي رصده تقرير لمجلة فورين بوليسي الأميركية.
وفي خطوة تعكس بوضوح هذا الاهتمام، استضافت الصين خلال الشهر الماضي وزراء خارجية العديد من دول الخليج العربي لاكتشاف سبل الارتقاء بالعلاقات وتعميق التعاون الأمني. وبعد أيام قليلة، وصل وزير الخارجية الإيراني إلى بكين لمناقشة اتفاقية استثمار وأمن بقيمة 400 مليار دولار، للتخفيف من تأثير العقوبات الأميركية على الاقتصاد الإيراني.
وأكد تقرير آخر أن بكين تساعد السعوديين على بناء مجموعة جديدة من الصواريخ الباليستية، التي من المحتمل أن تكون الرياض قد طلبتها لمواجهة أسطول الصواريخ الإيراني.
وترى كاتبة التقرير أنشال فوهرا أن الصين قدمت هذه الموجة من الزيارات والإعلانات كمثال على سياستها للمسافات المتساوية تجاه اللاعبين الإقليميين المعنيين. لكنها تبقى تعبيرا عن كيفية تغير السياسة الصينية تجاه الشرق الأوسط بشكل كبير في عهد الرئيس الصيني شي جين بينغ.
الصين ستبني 7 آلاف مدرسة في العراق و90 ألف منزل في مدينة الصدر، بالإضافة إلى تحسين نظام الصرف الصحي في بغداد
وبحسب التقرير، فقد كانت الصين حذرة من التورط في منطقة وصفها باحث صيني ذات مرة بأنها “مقبرة فوضوية وخطيرة تدفن الإمبراطوريات”. ولكن في 2014، تعهد شي بمضاعفة التجارة مع المنطقة بحلول 2023. وأصبحت الصين أكبر مستورد للنفط الخام، حيث يأتي نصفه تقريبا من الشرق الأوسط، وبرزت كأكبر شريك تجاري للمنطقة على مدى السنوات القليلة الماضية.
وترى كاتبة التقرير أن الصين وسعت بصمتها الأمنية ببطء، ولكن بثبات، على الرغم من إصرارها على الظهور كشريك إنمائي في المنطقة التي تعاني من الأزمات.
وأطلقت بكين في يناير العنان لقوتها الناعمة، عندما أعلنت عن بناء الآلاف من المدارس ومراكز الرعاية الصحية والمنازل التي دمرت في صراعات العراق المتعاقبة. ووفقا لمسؤولين عراقيين، يحتاج العراق إلى ما مجموعه 8 آلاف مدرسة “لسد الفجوة في قطاع التعليم”.
وقررت الصين بناء الجزء الأكبر من هذه المدارس (7 آلاف) للمساعدة في تعليم الملايين من الأطفال. كما ستبني ما يقرب من 90 ألف منزل في مدينة الصدر، معقل مقتدى الصدر أقوى زعيم سياسي ورجل دين في العراق، بالإضافة إلى تحسين نظام الصرف الصحي في بغداد وبناء مطار في الناصرية وبناء ألف عيادة رعاية صحية في جميع أنحاء البلاد، وذلك لدفع ثمن النفط العراقي، حسب التقرير.
وتعتبر الصين بحاجة إلى النفط لأسواقها المتنامية وعدد سكانها الكبير، ومن المعقول أن تسعى إلى تأمين طرق الإمداد البحرية التي تخشى أن تغلقها الولايات المتحدة المعادية إذا قررت ذلك. ومن المعروف أيضا أن بكين ترغب في توسيع نطاق مصالحها التجارية في الشرق الأوسط من خلال مبادرة الحزام والطريق، وهو مشروع يرمي إلى جعل الصين محركا للعولمة المستقبلية. ويقع الشرق الأوسط على مفترق طرق بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهو حيوي للتوسع الاقتصادي للصين. لكن هذه الأهداف التي تبدو غير ضارة والموجهة نحو الأعمال هي جزء من استراتيجية أكبر.
ويكمن الهدف النهائي في ترسيخ الصين كقوة عالمية في مكانها الصحيح. وتنوي الصين قلب هيمنة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وجعلها منطقة تحت تأثير بكين، ليس لتأمين احتياجاتها من الطاقة أو تنمية أعمالها فقط، بل وأيضا للإعلان عن أيديولوجيتها السياسية كذلك.
الانقسام بين المحللين يتوسّع حول نوايا الصين بشأن المدى الذي تريد أن تذهب إليه في قطاع الأمن
وتدعي بكين في الظاهر أنها تدفع المنطقة على طريق الانتعاش الاقتصادي وتشارك في دعم البنية التحتية مقابل النفط والغاز، لكنها حسب فوهرا وسعت نطاق انتشارها الدبلوماسي وانطلقت نحو مشروع أكثر مكرا، يكمن في دعم الدكتاتوريين الإقليميين والسلطويين لمنحهم المصداقية، وبالتالي السعي للحصول على الشرعية لنظامها الرسمي الحاكم ذي الحزب الواحد.
وتريد الصين أن تُظهر للشعب الصيني أن أيديولوجيتها السياسية كانت أفضل طوال الوقت، وتسعى للحصول على تقدير على المستوى العالمي، لأن تفكيرها (النمو الاقتصادي قبل الديمقراطية أو بالأحرى على حساب الديمقراطية) هو الطريق لوقف الصراع حتى في المنطقة الأكثر تقلبا وتحسين نوعية الحياة.
وكتب سون ديجانغ، المتخصص فى شؤون الشرق الأوسط بجامعة فودان، أن الصين قدمت السلام التنموي على المفهوم الغربي للسلام الديمقراطي في الشرق الأوسط. وأضاف أن بكين تعتقد أن المجتمع الدولي يجب أن يركز على تقديم المساعدة الاقتصادية التي تشتد الحاجة إليها للمنطقة، “بدلا من تصدير الديمقراطية غير الملائمة”.
وفي جوهر هذه السياسة، يكمن اعتقاد شي بأن الصين (وليس الولايات المتحدة) يجب أن تكون القوة العظمى في العالم. ويبقى التحدي الصيني استراتيجيا لكسب قلوب الصينيين وعقولهم أولا، حيث أخبرهم الحزب الشيوعي الصيني مرارا وتكرارا أن صعودهم في التسلسل الهرمي العالمي يُبطئه الإمبرياليون الغربيون.
وقال شاوجين تشاي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الشارقة، لفورين بوليسي إن الصين واثقة من أن نهجها التنموي أكثر شعبية من دبلوماسية الغرب “للقيم والسلام الديمقراطي” في الشرق الأوسط. و”بناء على الفلسفة السياسية الصينية وعقلية النخب الحاكمة، لا يمكن تحقيق السلام والحضارة والحكم الرشيد، إلا من خلال التنمية والازدهار الاقتصادي”.
وجعلت عقود من الحرب وسفك الدماء والسياسات الأميركية الفاشلة في الشرق الأوسط (وانسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من المنطقة) رواية الصين جذابة للعديد من العرب. وعلى الرغم من أن الشعب العربي قد لا يكون على دراية كاملة بتفاصيل المصافحة الدبلوماسية بين حكامهم الموثوقين والقيادة الصينية، فإن أولئك الذين عانوا من الحرب وحُرموا من الضروريات الأساسية لفترة طويلة جدا، يتقبلون الأفكار السياسية الصينية إذا جلبت لهم بعض الرفاه.
ويعتقد جوناثان فولتون، أستاذ العلوم السياسية المساعد في جامعة زايد في الإمارات العربية المتحدة، أن “الكثيرين يفترضون أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يغازلان الصين فقط، وأنهما سيدركان في النهاية أن الغرب هو شريكهما الطبيعي، لكن هذا الافتراض يبدو خاطئا بالنسبة لي. تبدو الولايات المتحدة بلا وجهة في الشرق الأوسط، وأوروبا لا تتحدث بصوت واحد عن السياسة الخارجية. إن لدى الصين الكثير لتقدمه، ويعدّ التركيز على الاقتصاد والتنمية بدلا من السياسة أمرا جذابا”.
ويتوسّع الانقسام بين المحللين حول نوايا الصين بشأن المدى الذي تريد أن تذهب إليه في قطاع الأمن. هل تريد بكين أن تبيع التكنولوجيا الخطرة فقط أو أن تحل محل الولايات المتحدة في نهاية المطاف كضامن أمني؟
وقال جوليان بارنزداسي، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، “إن التعاملات الأمنية الشاملة للصين لا تزال مقزّمة أمام العلاقات العسكرية الأميركية. لكن هذا قد يتغير”. وتابع “قد تمرّ الصين إلى دور إقليمي أكبر لتأمين مصالحها الأساسية، وسيشمل ذلك على الأرجح دورا أمنيا معززا. لكن يبدو أن بكين لا تزال حذرة بشأن خوضه بعمق”.
ويقول آخرون “حتى دورها المحدود الحالي سوف يؤدي إلى زعزعة الاستقرار إلى حد كبير. ففي موقع في الدوادمي بالمملكة العربية السعودية، أظهرت صور الأقمار الصناعية حفرة حرق للتخلص من بقايا إنتاج الصواريخ الباليستية. وكانت وكالات المخابرات الأميركية على يقين من أن الصواريخ تُبنى بمساعدة صينية نشطة. وعلى الرغم من أن المدى والحمولة لم يتضحا بعدُ، فإن الصواريخ الباليستية هي الوسيلة المفضلة لإيصال سلاح نووي”. وقال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إنه إذا نجحت إيران في تطوير قنبلة نووية، فإن الرياض ستتبعها قريبا. ويتناسب بناء الصواريخ الباليستية مع تلك الخطة.
ومع ذلك، فإن كلا من إيران والمملكة العربية السعودية شريكتان استراتيجيتان للصين. ويمكن للصين أن تؤثر على كليهما وتنصحهما ضد امتلاك أسلحة نووية، لكنها تختار تغذية شهيتهما بدلا من ذلك وتبرير مساعدتها العسكرية على أنها حميدة لخلق توازن للقوى في المنطقة.
وفي حقيقة الأمر، تعمل الصين بشكل فعال على تفاقم سباق التسلح في منطقة مضطربة بالفعل وتستفيد من التنافس. وسيصعّب توسيع البرنامج الصاروخي السعودي على الولايات المتحدة تقييد برنامج إيران الصاروخي، ومنحها ذريعة لإبقائها خارج طاولة المفاوضات في المستقبل.
وقال جيفري لويس، خبير الأسلحة والأستاذ في معهد ميدلبري للدراسات الدولية في مونتيري، لمجلة فورين بوليسي إنه كشف لأول مرة عن مشروع صاروخ الدوادمي في 2019 مع زملائه في واشنطن بوست. وأضاف “على المستوى الإقليمي، فإن انتشار الصواريخ المسلحة تقليديا هو جزء من سباق تسلح إقليمي يمكن أن يكون مزعزعا للغاية للاستقرار، بل إنه يثير صراعا بين الولايات المتحدة وإيران”.
وتابع “على المستوى العالمي، من الواضح أن الآليات الحالية مثل نظام التحكم في تكنولوجيا الصواريخ، التي تهدف إلى إبطاء انتشار الصواريخ الباليستية، فشلت تماما”.
وتنسق الصين بشكل متزايد مع الحكّام في الشرق الأوسط وتقدم لهم الدعم الدبلوماسي الكامل مقابل اتفاقيات الطاقة والتجارة، بالإضافة إلى التنازلات الدبلوماسية بشأن قضايا انتهاكات حقوق الإنسان في شينجيانغ ونزاع بحر الصين الجنوبي. وتريد أيضا دمج المنطقة ماليا حتى لا تتمكن العقوبات الأميركية من وقف إمدادات النفط، والجهات الفاعلة الخاضعة للعقوبات تدين بالفضل لبكين. وتعتمد الصين على القوة العسكرية الروسية للابتعاد عن التدخل العسكري في الصراعات الأمنية في المنطقة. لكن لا يمكن لبكين أن تبقى على الحياد إلى الأبد في الخصومات الإقليمية إذا كانت تريد أن تصبح زعيمة عالمية.
العرب