لا يمكن أن تمر مناسبة على العراقيين من دون أن يقول التاريخ كلمته الفصل فيها، إنهم شعبٌ مولع بالتاريخ. لا حبا به، وإنما بحثا عما يمكن أن يدعم توجهاتهم وقناعاتهم، حتى بات التاريخ العراقي الحديث من لعنات عصر ما بعد 2003 الذي بشّرت به الولايات المتحدة الأميركية لجعل العراق أنموذجا ديمقراطيا في منطقة الديكتاتوريات الشرق أوسطية، وإذا به يتحوّل، بالتدريج، إلى أنموذج للفشل والتراجع والانهيار والانحطاط، ما حدا بتلك الأنظمة التي حبست أنفاسها من وجود عراق ديمقراطي إلى جوارها تُخرج لسانها بوجه شامتٍ أمام واشنطن، ومن بعدها شعوبها التي لم تتأخر كثيرا، فخرجت في تظاهرات أرادات منها أن تصنع ديمقراطية تستحقها، قبل أن تسحقها تلك الأنظمة القمعية بتواطؤ مكشوف من راعية الديمقراطية الأولى في العالم وناشرتها، أميركا.
التاريخ بالنسبة للعراقيين اليوم فخ كبير يقعون به في كل مناسبة، فهو يفرّقهم أكثر مما يجمعهم، ببساطة، لأن تاريخ العراق الحديث بات له أكثر من وجه، وعدة كَتبة، كُلٌّ يكتبه بما يريد ويعتقد، من دون أن يكون للدولة أي دور في سعيها إلى محاولة قراءة على الأقل تجمع الشعب، ولا تشتته حيال تاريخهم القريب.
اختلفت القوى السياسية في العراق، متى يمكن أن يكون للعراق يوم وطني مثل سائر الشعوب، فكان أن سعت قوى سياسية إلى أن يكون اليوم الوطني للعراق هو التاسع من إبريل/ نيسان، تاريخ الغزو الأميركي للعراق، نعم تاريخ الغزو الأميركي للعراق هو اليوم الوطني. وهذا ليس مستغربا على قوى سياسية، ما كان لها أن تكون لولا هذا الغزو، فقرّرت أن تدافع عن وجهة نظرها بالقول إنه اليوم الذي سقطت فيه الديكتاتورية. وعلى الرغم من كل ما روّجته، وقدّمته من قراءات وحجج، إلا أنها فشلت في جعل هذا اليوم الأسود يوما وطنيا للعراق. وتوالت المناسبات وبقي العراق بلا يوم وطني رسمي حتى العام 2020، عندما قررت الحكومة العراقية أن تختار يوم إنهاء الانتداب البريطاني على العراق، الثالث من أكتوبر/ تشرين الأول 1932 يوما وطنيا، من دون أن يثير هذا التأريخ حفيظة أحد.
تلجأ الدول والأنظمة، قمعيتها وديمقراطيتها، إلى محاولة تشكيل تاريخها بما يتناسب والفلسفة التي تقوم عليها تلك الدول، لأنها تدرك جيدا أن وجود تاريخٍ جامع لشعبها يسهّل كثيرا من عملية تطويعه، والمضي به في سبيل تحقيق الأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها. ولكن أن يتحوّل التاريخ إلى لعنة ومناسبة تشتت الشعب الواحد وتفرّقه بمفهوم الدولة الوطنية، فهنا لا بد من إعادة قراءة واعية تقوم بها أولا أجهزة الدولة، من أجل تقديم تاريخ فيه الحد الأدنى من المقبولية من دون شطب، أو تزوير أو تحريف أو تشويه.
ترتكب أحزاب السلطة في العراق جريمةً لا تغتفر، وهي تحاول، في كل مناسبة، التقليل من النظام العراقي السابق الذي أسقطته أميركا لا هُم، هذه الأحزاب التي سعت، في كل مناسبة، إلى تشويه صورة هذا النظام الذي حكم العراق منذ العام 1968 وحتى الغزو الأميركي 2003، لم يكن مثاليا ولم يكن ديمقراطيا ولم يكن عادلا، إلا بمقدار ما يوفره العدل في توزيع الظلم من ديمومة واستقرار له. ولكن أيضا كان نظاما عراقيا جاء إلى السلطة بانقلاب، كما كان شائعا عن أنظمة الخمسينات والستينات في منطقتنا العربية، واكتسب شرعيةً بقوة السلطة والنفوذ كحال أنظمة المنطقة. ثم إن هذا النظام بقي فترة تتجاوز الأربعين عاما في سدّة الحكم، بمعنى أنه أصبح جزءا هاما من هوية أجيال من العراقيين. بالتالي، تُنتج محاولة تشويه كل ما يتعلق به، بالتأكيد، انقساما وشرخا مجتمعيا أبعد ما يكون العراق عن الحاجة له.
ولعلها إشارة هنا إلى نقطة جوهرية، أن أحزاب السلطة التي توالت على عراق ما بعد 2003 لو نجحت في تغيير واقع العراقيين بنسبة الواحد بالمئة، بالقياس إلى ما كانوا عليه في حقبة النظام السابق، لكانت عملية التنكّر من طيف واسع من العراقيين لذلك النظام قد أخذت مجرىً طبيعيا، لكن ما جرى أن أحزاب السلطة ما بعد 2003 فشلت فشلا ذريعا في تحقيق ذلك، بل إنها تقدّم، يوما بعد آخر، للنظام الذي تدّعي أنها كانت تعارضه، خدماتٍ جليلةً لا تعدّ ولا تُحصى، خدمات جعلت العراقيين بكل أطيافهم، يتحدون في مدح ذلك النظام الديكتاتوري علانية، ومن دون خوف من سلاح مليشيات أحزاب السلطة، بسبب سوء إدارة البلاد وإفقار الناس وضعف الخدمات، ناهيك طبعا عن وحش الطائفية الذي أطلقته أحزاب السلطة بعد 2003، ونهش أجساد العراقيين بلا رحمة.
يكتب مسعود ضاهر، في دراسة له من صادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، إن منهجية كتابة التأريخ بالتركيز على الفرد البارز؛ بات يُنظر إليها بكثير من الشك، لأنها كتابة تأريخية ضعيفة، وهو تمام ما يجري في تعامل أحزب السلطة في العراق مع حقبة ما قبل 2003، وهو تعاملٌ مبتورٌ تسعى من خلاله تلك القوى والأحزاب إلى تشويه صورة ذاك العراق، بالتركيز على تصرّفات الفرد الحاكم، متناسية أنها بذلك إنما تشوّه صورة العراق، تاريخا وشعبا وحضارة. ولعمري، ما تقوم به هو أبشع مما قام به الحاكم الفرد التي تدّعي تلك القوى السياسية زورا وبهتانا أنها كانت تعارضه.
العراق اليوم بحاجة إلى جهد بحثي وأكاديمي من أجل استعادة العراقيين أولا ثقتهم بأنفسهم وعدم الوقوع في فخ التاريخ وتناقضاته وقراءاته المتعدّدة بحسب الأهواء والمصالح، قراءة تضع الأمور في نصابها من دون تشويه أو إقصاء، حتى لا تستمر عجلة إنكار كل تأريخ سابق، ما يفتح الباب أمام قراءاتٍ متطرّفة لا تسهم سوى في زيادة الانقسام المجتمعي الذي تلعب على وتره تلك القوى الحاكمة، استمرارا لبقائها وديمومة لمشروعها التخريبي.
العربي الجديد