على الرغم من كونها عضوا تاريخيا فاعلا ومهما في حلف شمال الأطلسي، تدعم تركيا بشكل علني وتؤكد تفهمها لمخاوف موسكو من توسع حلف “الناتو” قرب الحدود الروسية، في موقف معقد يعكس بشكل واضح تداخلات الموقف التركي من أي حرب واسعة قد تندلع بين روسيا وأوكرانيا، وتفتح الباب أمام تساؤلات كبيرة حول موقع تركيا في هذه المواجهة التي ستضع أنقرة أمام خيارات صعبة.
وفي تصريحات مختلفة، أكد كبار المسؤولين الأتراك تفهم بلادهم للمخاوف الأمنية الروسية، وقلق موسكو من توسع حلف شمال الأطلسي قرب حدودها، وهو موقف مغاير لدول الحلف التي تدعم في معظمها الموقف الأمريكي الرافض لمنح موسكو ضمانات أمنية أو تقديم تعهدات بعدم ضم أوكرانيا للحلف أو سحب قوات الحلف من دول شرق أوروبا.
وقبل أيام، احتفلت تركيا بمناسبة مرور 70 عاماً على انضمامها لحلف شمال الأطلسي، كما شارك وزير الدفاع خلوصي أكار في اجتماعات وزراء الحلف التي تركز على بحث الأزمة الأوكرانية، وأجرى أردوغان اتصالاً هاتفياً مع أمين عام الحلف ينس ستولتنبرغ، وسط عدد كبير من التصريحات من كبار المسؤولين الأتراك أكدت على “مكانة تركيا التاريخية والراسخة ودورها الحيوي والمحوري في الناتو”.
والأحد، قال المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن، إن العقوبات الغربية ضد روسيا فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية “غير مجدية وتؤدي فقط إلى إرجاء المشاكل”، وأضاف: “من الأفضل الاستماع للطرف الآخر وفهم مخاوفه الاستراتيجية”، في إشارة إلى روسيا.
وقال قالن في تصريحات أدلى بها لصحيفة دي فيلت الألمانية: “تشعر روسيا بالتهديد من قبل الناتو والرئيس (فلاديمير) بوتين يريد إعادة رسم الحدود وتجديد التحالفات الاستراتيجية بعد 30 عاما من انهيار الاتحاد السوفييتي”، مؤكداً على ضرورة تشكيل قواعد ومبادئ جديدة تطمئن الطرفين، مستدركاً: “هذا الأمر لا يعني بالضرورة الاستجابة لكافة طلبات روسيا، ولكن الاستماع لها”.
ورغم تأكيد قالن على أن “الناتو يعد أنجح وأهم تحالف عسكري شهده العالم، وتركيا عضو رئيسي فيه”، شدد على أن “ذلك لا يعني أننا لن نشارك في تحالفات أخرى في آسيا الوسطى أو القوقاز أو الشرق الأوسط أو إفريقيا، أو أنه لن تكون لدينا علاقات جيدة مع روسيا أو الصين”، وشرح ذلك بالقول: “تركيا تنظر إلى السياسة الخارجية من منظور 360 درجة، وأنها لا ترفض يدا مُدت إليها، كما أن ذلك لا يعني بالضرورة أن يكون هناك توافق على كافة الأصعدة. ولا حتى مع روسيا، حيث أننا لا نعترف بضم شبه جزيرة القرم، ولا نؤيد سياستها في سوريا وقوات فاغنر التابعة لها في ليبيا، ولكن هذا لا يضطرنا لمحاربة بعضنا البعض على الفور”.
والجمعة، أعرب وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، عن أمله في مواصلة “الدبلوماسية والحوار لحل التوتر الروسي الأوكراني”، وأضاف على هامش مشاركته في اجتماعات وزراء دفاع الناتو في بروكسل: “تركيا تتابع مجريات التوتر بقلق، وتشدد على أهمية مواصلة الدبلوماسية والحوار لتجاوز هذا التوتر كما تدعم وحدة أراضي وسيادة أوكرانيا وجورجيا”.
وفي تصريحات أخرى، قال أكار: “هناك أنشطة عسكرية لها تبعات معينة. وهناك تقارير في وسائل إعلام حول هذه الأنشطة يجب تقييمها بحذر كبير، لأن الحديث يدور عن أخبار مضللة وكاذبة”، كما جدد التأكيد على التزام تركيا باتفاقية مونترو 1936 التي تحدد نظام مرور السفن عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وهي إشارة لروسيا بعدم السماح بمرور سفن حربية أكثر مما تنص عليه الاتفاقية إلى حوض البحر الأسود، قائلاً: “لقد أعلنّا أن بنود اتفاقية مونترو تعود بالنفع على جميع الأطراف. ونحن مخلصون في تمنينا أن تعيش الدول المطلة على البحر الأسود في سلام وأمان”.
وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد وجّه انتقادات للغرب في طريقة تعامله مع الأزمة الأوكرانية، وذلك عقب زيارته كييف بداية الشهر الجاري، وقال أردوغان: “لسوء الحظ لم يقدم الغرب حتى الآن أي مساهمة في حل هذه المشكلة. يمكنني القول إنهم يزيدون الأمور سوءا”، معتبراً أن الرئيس الأمريكي جو بايدن “لم يتمكن حتى الآن من إظهار مقاربة إيجابية للتعامل مع هذه الأزمة”، لافتاً إلى أنه “توجد مشكلة قيادة جدية أوروبيا لحل هذه الأزمة في الوقت الحالي”.
هذه المواقف تهدف بالدرجة الأولى إلى التأكيد على الموقف “الحيادي” لتركيا في الأزمة الأوكرانية، والتفريق ما بين وقوف تركيا إلى جانب أوكرانيا، وبين دعمها لإجراءات الناتو بشكل عام، حيث تسعى أنقرة لتأكيد أنها تتبنى “موقفا مستقلا” بدعم أوكرانيا وليس دعم كل إجراءات دول الناتو بشكل عام، ومن خلال ذلك تسعى لإرسال رسائل إيجابية إلى موسكو أنها قادرة على لعب دور الوسيط.
هذه الرسائل أهمها ما يتعلق بـ”ضرورة أخذ مخاوف روسيا الأمنية بعين الاعتبار” وهي بذلك تلامس أبرز المطالب الروسية، حيث يسعى الرئيس التركي للعب دور الوسيط في الأزمة، وعلى الرغم من عدم التجاوب الروسي حتى الآن، إلا أن الرئيس التركي يؤكد أنه سيهاتف قريباً بوتين وزلينسكي وسط محاولات متواصلة لعقد لقاء ثلاثي في أنقرة.
إلى جانب ذلك، وعلى الرغم من أن تركيا عضو بارز في الناتو، إلا أنها لا ترغب في توسيع حضور الحلف العسكري في شرق أوروبا وأوكرانيا أيضاً، فأنقرة لديها خلافات جوهرية مع الإدارة الأمريكية ودول أوروبية مختلفة، ولا ترغب في حضور عسكري أكبر لهذه الدول قرب حدودها، وترغب في المقابل، في ترك مساحات لتوسع تركي مستقبلي محتمل في هذه الدول، يضاف إلى ذلك خشية أنقرة من أن دولا غربية تدفع لمواجهة روسية في أوكرانيا لإضعاف روسيا عسكريا واقتصاديا، دون الأخذ بعين الاعتبار الآثار الكارثية لهذا السيناريو على تركيا وأوكرانيا نفسها.
يضاف إلى ذلك، خشية أنقرة من أن يؤدي إلى صراع في منطقة إلى انهيار بيئة الهدوء والسلام السائدة منذ عقود في البحر الأسود، حيث تعطي تركيا أولوية كبيرة لاستمرار السلام في البحر الأسود الذي يطل عليه الشمال التركي بأكمله، ومن شأن أي صراع فيه أن يجلب نتائج كارثية على تركيا، إلى جانب ما يحمله الصراع هناك من ضغوط هائلة وتحديات استراتيجية تتعلق بقضية عبور السفن الحربية من مضيقي البوسفور والدردنيل.
القدس العربي