المراهقة السياسية ام المقاربة الرشيدة: الموقف من الاحتلال الروسي لأوكرانيا

المراهقة السياسية ام المقاربة الرشيدة: الموقف من الاحتلال الروسي لأوكرانيا

ليس هناك مُنصف او مُناصر لقضايا العدل والتحرر في طول وعرض العالم إلا ويجد نفسه في المربع المضاد للغطرسة الامريكية والغربية، خاصة إثر تفاقمها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتغولت بشكل سافر وهمجي. في منطقتنا العربية كنا الشعوب التي دفعت الاكلاف الاغلى، حديثا في العراق وسورية واليمن وغيرها، ودائما وابداً في فلسطين. أمريكا والغرب هم عرابو النظام الصهيوني الاستيطاني الذي زرع في قلب المنطقة على حساب شعب فلسطين الذي تعرض للتطهير العرقي المتواصل منذ حقبة الانتداب البريطاني وحتى حقبة الانتداب الأمريكي عن بعد الآن. إسرائيل هي جريمة الغرب اولاً وآخرا. وايضاً، جريمة الاتحاد السوفياتي الذي كان اول دولة اعترفت بقيام إسرائيل قانونيا de jureبعد ثلاثة أيام من إعلانها، وكان ذلك الاعتراف حينها اهم من اعتراف الولايات المتحدة الذي كان ما زال اعترافاً ب “الأمر الواقع”، أي de facto، وليس اعترافاً قانونيا. في دعم الدول الكبرى للصهيونية وإسرائيل كان ثمة سباق امبرياليات (بريطانية، أمريكية، سوفياتية) كل منها تسعى وتأمل ان يدور الكيان الوليد في فلك نفوذها السياسي والايديولوجي. فازت أمريكا بالغنيمة وتغير بعدها موقف الاتحاد السوفياتي جزئيا، لكن اعتراف جميع تلك الدول بإسرائيل بقي القاسم المشترك.
ماذا يفيد هذا الحديث في التاريخ حول غزو روسيا لاوكرانيا؟ يفيدنا في تذكر الدرس الأول في العلاقات والصراعات بين القوى الكبرى وهو ان هذه القوى تتبع مصلحتها القومية الصرفة وفي سبيل تلك المصلحة تدوس على كل شيء، وأول الأشياء المبادئ والقيم. ويفيدنا أيضا ان هذه القوى مارست سياسات امبريالية تجاه المنطقة العربية وقضاياها، ولم تختلف جوهريا إلا بالدرجة. روسيا اليوم، في تحديها للغطرسة الامريكية والتفرد الغربي في قيادة العالم، تُقاد عمليا بمصلحتها القومية وليس بقيم ومبادئ عليا مثل إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب، متوازن وعادل. وكما هي عادة القوى الكبرى في تسويغ حروبها فإن لكل حرب شعار او شعارات براقة تُبرر اندراج الدبابات عبر الحدود. من حق روسيا ان تدافع عن مصالحها القومية من وجهة نظرها، ومن حق أوكرانيا ان تدافع عن مصالحها القومية واراضيها من وجهة نظرها. لكن ما هي وجهة نظرنا نحن وكيف نحلل المشهد وأين نصطف؟
عربيا واسلاميا وفلسطينيا، وعلى خلفية السخط والنقمة العميقة والمبررة ضد أمريكا والغرب، ثمة ميل شبه جارف لتأييد روسيا في كل خطواتها. كل ما يضر أمريكا ويحطمها جيد ويجب ان نرحب به، وكل ما يقوي روسيا والصين أيضا جيد ويجب ان نؤيده. برغم تفهم خلفية هذا الموقف إلا انه خطي وتسطيحي والوقوع في أسره يشير الى غريزة الاصطفاف القبلي العشوائي عوضا عن التروي وفهم تعقيد المشهد وتبني موقف مركب لا تكون بوصلته الفكرة الساذجة: عدو عدوي صديقي. الموقف الرشيد والمتوازن، خصوصاً فلسطينيا، من الاحتلال الروسي لاوكرانيا يجب ان يأخذ بالاعتبار المسائل التالية:
اولاً، يجب ان ينفك النقاش من ثنائية “مع او ضد”، واشهار سيفها على كل من ينتقد الغزو الروسي لاوكرانيا، وكأنه مؤيد لأمريكا. شخصيا، اقف وبوضوح ومن دون تردد ضد احتلال روسيا لأي بلد مجاور لها، لأنني ضد مبدأ الاحتلال العسكري، كإنسان أولا وكفلسطيني ثانيا. وشخصيا، اقف ووقفت من دون تردد ضد الولايات المتحدة وسياساتها وامبرياليتها في المنطقة والعالم، واعتقد انها العدو الأول الآن للفلسطينيين جنبا الى جنب مع إسرائيل وليس فقط تلعب دور الداعم لها (واشير هنا الى انني ممنوع من دخول أمريكا من عشر سنوات – واضطر لذكر هذه الإشارة استباقاً لأي لمز او مزايدات سمجة). على ذلك يمكن ان يكون المرء ضد أمريكا وضد احتلال روسيا في الآن ذاته.
ثانياً، المسوغات الروسية لغزو واحتلال أوكرانيا كثير منها مشابه لمسوغات إسرائيل والحركة الصهيونية في احتلال فلسطين، ثم في تبرير السياسة التوسعية لاحقاً. الحديث عن الجذور التاريخية الروسية في أوكرانيا، والحديث عن ان امن روسيا القومي يفرض عليها القيام بهذه الخطوة، تذكرنا بمقولات الصهيونية التوراتية حول “الحق التاريخي” في فلسطين، وتذكرنا بكل مسوغات إسرائيل في حروبها ضد الفلسطينيين والعرب وكلها كانت تقوم على “حفظ امن إسرائيل”. الى هذه اللحظة وقضايا مثل توسيع المستوطنات وضم غور الأردن والجولان كلها تقوم على مسوغ حفظ الامن القومي للكيان.
ثالثاً، واستطرادا في نقطة تلاقي الجذور التاريخية للشعبين الاوكراني والروسي بما يبرر الخطوة الروسية، فإن هذا الالتقاء واقعة جغرافية متكررة في كل مناطق العالم، واحد الموروثات (ربما الدموية) لفكرة الدولة الوطنية الحديثة ذات الحدود الصارمة، كما تطورت في القرنين الماضيين. في افريقيا وآسيا والمنطقة العربية، مثلا، ربما يندر ان نجد دولتين متجاورتين لا يعود الشعبان (المستقلان) فيهما الى جذور تاريخية واثنية وقبلية واحدة. صدام حسين غزا الكويت منطلقا من هذه الواقعة، والسعودية يمكنها ان تستعمل هذا المسوغ لتغزو الامارات وقطر، وليبيا ممكن ان تغزو تونس استنادا الى هذا التبرير، وكل الدول الافريقية الكبرى ممكن ان تغزو جاراتها الأصغر، وهكذا. بل يمكن لألمانيا ان تطالب بعودة إنجلترا لأن الجذور الانجلو-ساكسونية واحدة واصلها في المانيا. عالم اليوم قام على فكرة السيادة ووضعت حدود سياسية قد تكون مجحفة في معظم الحالات، لكن هذا هو الأساس الذي يقوم عليه القانون الدولي الحالي.
رابعاً، هناك مسوغ قوي ومفهوم وراء الغضب الروسي تمثل في تمدد حلف الناتو في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وضم الدول المجاورة لروسيا لعضوية الحلف. عكس ذلك التمدد غطرسة أمريكية وغربية بالغة الانتهازية ارادت ان تؤبد الهزيمة السوفياتية وتفرض قواعد نظام دولي جديد على الحدود الروسية، مثلما فرضت قواعد نظام عالمي جديد على المانيا واليابان بعد هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية. روسيا هنا مُحقة في غضبتها على هذه السياسة وفي مواجهتها، لكن الاختلاف معها في طريقة تلك المواجهة واحتلال بلد بأكمله.
خامساً، في خضم ذلك كله وكما هو ديدن الحروب الكبرى بين القوى المتصارعة ليس هناك حساب للشعوب والاكلاف التي يدفعها الأبرياء. تسقط هذه المبادئ والقيم الإنسانية من حسابات الاستراتيجيين وصناع الحروب. بيد ان هذه المبادئ يجب ان لا تسقط من حسابات المثقفين والناشطين الذين ينطلقون من مناظير لا تقع حبيسة الاستراتيجيات الكبرى وحسب (رؤية الغابة فقط)، ويجب ان تكون مُقادة بالحس الإنساني والحساسية إزاء ما تدفعه الشعوب (رؤية الأشجار منفردة ايضاً). عندما يمر رقم عابر مثلاً في الاخبار يقول انه خلال السنوات القليلة الماضية قُتل 14 الف اوكراني في الصدامات العسكرية بين الدولة والانفصاليين المدعومين من روسيا، فإن هذا يجب ان يدفعنا للتوقف عنده، وعدم المرور عليه سريعا. هؤلاء افراد وغالبيتهم مواطنون أبرياء، من الجانبين، ولهم عائلات، ويفوق عددهم كل من استشهد في قطاع غزة في حروبها الأربعة منذ سنة 2009. إذا لم نشعر بهول القتل والتشريد والتيتم التي يتعرض لها البشر جراء الحرب، ونستسهل مقتل عشرات الألوف هناك، فكيف نطالب العالم أن يقف معنا ضد آلة القتل الإسرائيلية هنا؟ قرأت في الأيام القليلة الماضية بعض العبارات التي تمجد القنابل الروسية ويتلهف كاتبوها على رؤية سقوطها على أوكرانيا، وكأنه ليس هناك شعب وعائلات وبشر. ماذا لو انزلقت الحرب الراهنة الى مرحلة اعم واشمل حتى لا نقول نووية، وهل موقفنا هو غض النظر عن عشرات الألوف من القتلى او اكثر وقبول ذلك كتحصيل حاصل؟
سادساً، صراعات القوى الكبرى تماثل صراع الافيال الغاضبة، يكون العشب الذي يُداس ويقع فوقه الصراع الضحية الأكبر (الشعوب)، والموقف المبدئي في صراعات عالم اليوم يجب ان ينطلق من حسابات مركبة وليس خطية اصطفافية، إلا اذا قررت قوة عظمى وبكل وضوح الوقوف في صفنا بشكل لا لبس فيه. الى ان تحصل تلك اللحظة، فإن كل قضية وحادث يجب ان يُحلل ويتخذ الموقف منه بحسب المعطيات الظرفية الخاصة به، ومن دون الانجرار الى تأييد اعمى هنا او هناك. هذا التأييد الاعمى ينتمي الى المراهقة السياسية اكثر منه الى الرشد. في سنوات ما قبل النكبة كان الشيوعيون الفلسطينيون ضد فكرة التقسيم، انسجاماً مع الموقف الفلسطيني والعربي العارم. لكن قبل النكبة بأقل من سنة اتخذ الاتحاد السوفياتي خطوة مفاجئة وتبنى فكرة التقسيم وتحمس لها وصوت لصالحها في الأمم المتحدة. تلعثم أنصاره في فلسطين، وشطب كثير منهم موقفهم المبدئي، وايدوا التقسيم انسياقاً وراء قرار الرفيق ستالين (وانصافا، بقي كثير منهم معارضين للقرار ولتأييد ستالين له). دفع الشيوعيون الفلسطينيون ثمن ذلك النزق السياسي المبكر اثماناً غالية، موضعتهم على هامش المشهد الفلسطيني لسنوات عديدة قادمة.

سابعاً (وليس آخرا)، يجب ان تكون بوصلة الموقف الفلسطيني في هذا الحدث وغيره الانحياز لحق تقرير المصير وحرية الشعوب، ورفض أي احتلال عسكري لأراضي الغير او فرض سلطة على الشعوب بالقوة. اذا اختار الاوكرانيون، مثلا، الانضمام الى روسيا وفق استفتاء حر ونزيه فهذا شأنهم وقرارهم، واذا اختاروا رفض روسيا فهذا أيضا شأنهم، وموقفنا في الحالتين تأييد حقهم في تقرير المصير والحرية، وهو ما نُطالب به لأنفسنا. أما وهذا لم يحدث، فالمنطقة الرمادية هي آمن المناطق في صراع اكبر منا جميعاً.