بين أكثر جوانب الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية مأساوية اضطرار مئات الآلاف إلى النزوح القسري نحو بولندا وسلوفاكيا ورومانيا وهنغاريا ومولدوفيا والدول الأخرى المجاورة، وسط مخاوف متزايدة من وصول العمليات العسكرية إلى مستويات أشد عنفاً وتدميراً، وقلق عميق حول المستقبل والمصير على مدى قريب أو بعيد.
المفوضية الخاصة بشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة وكذلك المنظمات الأخرى المختلفة ذات الصلة باتت تتحدث عن قرابة نصف مليون لاجئ أوكراني غادروا مساكنهم في عشرات القرى والبلدات والمدن، وثمة معطيات تشير إلى احتمال تزايد أعداد اللاجئين إلى ما يقارب أربعة ملايين، والاتحاد الأوروبي وحده يعلن خططاً طارئة لاستقبال مليون لاجئ. وتتنامى في معظم دول أوروبا الشرقية والوسطى والغربية جهود مكثفة لاحتواء الزيادات المتوقعة في موجات اللجوء، ويجري فتح الحدود تارة أو تسهيل استقبال اللاجئين عن طريق إعفائهم من الإجراءات البيروقراطية المعتادة تارة أخرى.
وهذه سياسات حميدة جديرة بالترحيب رغم أنها سلوك الحدود الدنيا المنتظرة في التعامل مع معاناة الملايين من مواطني أوكرانيا الذين شردهم الاجتياح الروسي، خاصة في صفوف الأطفال والنساء والشيوخ، ولا يعكر صفو هذا التراحم الإنساني المثالي سوى الحقائق الساطعة حول التناقض الصارخ بين الترحيب الراهن الحار بلاجئي أوكرانيا، مقابل سياسات إغلاق الحدود والطرد والتنكيل والترهيب التي اعتمدتها الغالبية الساحقة من هذه الدول في وجه موجات اللجوء من أفغانستان أو سوريا أو العراق في أزمنة سابقة غير بعيدة.
ويصعب أن تُمحى من الذاكرة مشاهد لهاث المواطنين الأفغان خلف أجنحة طائرة تقلع من مطار كابول، أو تلك المصوّرة الهنغارية التي كانت تركل اللاجئين أو تعرقل مسيرهم على الحدود مع صربيا، أو دفع مئات اللاجئين إلى المجهول وأخطار الجوع والموت في غابة على الحدود بين بولندا وبيلاروسيا. لا تُنسى أيضاً مواقف رئيس الوزراء الهنغاري فكتور أوربان الذي كان في كانون الأول/ ديسمبر الماضي قد توعد لاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا بأن أياً منهم لن يدخل، وتصريحه مؤخراً بأن جميع اللاجئين من أوكرانيا سوف يدخلون.
ولقد كان يمارس الكذب والتمييز العنصري حتى في تصريحه الأخير، لأن العشرات من الطلاب أبناء شعوب أخرى آسيوية وأفريقية ولاتينية مُنعوا من دخول بعض بلدان أوروبا الشرقية رغم أنهم كانوا قد قدموا ضمن صفوف لاجئي أوكرانيا أنفسهم، وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد مؤلمة تظهر منعهم من الصعود حتى إلى القطارات ووسائل النقل.
وفي سياق تصاعد الفوارق الصارخة بين تراحم حار هنا وتمييز عنصري هناك، لم تسلم بعض وسائل إعلام عالمية كبرى من العدوى ذاتها لدى مراسلين مخضرمين، فتكاثر الحديث عن اختلاف لاجئي أوكرانيا عن آخرين أتوا من العراق أو سوريا أو أفغانستان أو أفريقيا، وبلغ الانحطاط درجة تصنيف الشرائح الأوكرانية طبقاً للعيون الزرق والشعر الأشقر والطبقة المتوسطة المثقفة.
صحيح أن أواصر القربى والتاريخ والثقافة تجمع الهنغاري مع الأوكراني أكثر بكثير من جمعه مع أفغاني، لكن العذاب الإنساني ليس له بشرة بيضاء وأخرى سمراء، فكيف حين تكون الحروب التي يشعلها الطغاة والمستبدون هي مطحنة آلام البشر.
القدس العربي