ذهب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعيدا في المكابرة. لم يعد يعتقد أنّه قيصر روسيا المقيم في الكرملين فحسب، بل يعتقد أيضا أنّه قيصر العالم. سيتمكن بوتين، على الأرجح، بفضل ما يمتلكه من قوّة ناريّة من تدمير أوكرانيا وتشريد الملايين من الأوكرانيين، تماما كما حصل في سوريا حيث شارك بشّار الأسد وإيران في الحرب على شعبها المستمرّة منذ أحد عشر عاما.
لدى بوتين أهدافه في أوكرانيا وهو مصرّ على دخول كييف، يسعى لفرضها على الأوكرانيين وعلى العالم. يريد وضع أوكرانيا تحت الوصاية الروسيّة. تكمن مشكلة الرئيس الروسي في أنّه يخلط، على الرغم من امتلاكه الصواريخ والقنابل النووية، بين القوّة العسكريّة والسياسة. يظنّ أن لديه ما يكفي من القوة العسكرية ما يسمح له بتنفيذ السياسة التي يؤمن بها مع ما يعنيه ذلك من وضع اليد على أوكرانيا. لا يدري أنّه كان في استطاعته، بمجرد حشد جيوشه على الحدود الروسيّة – الأوكرانيّة، التفاوض من مركز قوّة مع الأوكرانيين أنفسهم ومع قوى أوروبية مؤثّرة وحتّى مع الإدارة الأميركيّة من أجل التوصل إلى ضمانات معيّنة كان يبحث عنها.
تظلّ التسويات السياسية أقلّ كلفة من الحرب. هذا ما لم يدركه في الماضي عقل مثل عقل صدّام حسين لم يتخيّل في أيّ لحظة معنى اجتياح الكويت وجعلها المحافظة العراقيّة الـ19. لم يقدّر في العام 1990 أهمّية الكويت بالنسبة إلى العالم والمنطقة وأنّ ليس مسموحا للعراق التحكّم بثروته النفطية وثروة الكويت في الوقت ذاته. لم يكن صدّام يعرف العالم أو التوازنات في المنطقة.
أوروبا تشعر بأنّها صارت مهدّدة وأنّ ما كان مسموحا وما لا يزال مسموحا به للرئيس الروسي في سوريا، ليس مسموحا به في أوكرانيا
لم يع أن ضمّ الكويت سيعني تهديدا لكلّ دولة من دول المنطقة، بما في ذلك المملكة العربيّة السعوديّة. هذا ما يفسّر ردّ فعل هاشمي رفسنجاني الرئيس الإيراني وقتذاك. ردّ رفسنجاني على رسالة بعث بها إليه صدّام، طالبا دعم “الجمهوريّة الإسلاميّة” بعيد اجتياحه الكويت، بقوله “(…) أمّا شرف منازلة الشيطان الأكبر (أميركا) في الكويت، فإنّنا نتركه لكم”. كان مبعوثا الرئيس العراقي الراحل إلى رفسنجاني طارق عزيز وبرزان التكريتي (الأخ غير الشقيق لصدّام). أبلغني برزان شخصيّا وبالتفاصيل الدقيقة بما دار بين طارق عزيز وبينه في اللقاء الطويل مع رفسنجاني.
على الرغم من وجود فروقات كبيرة بين أوكرانيا والكويت، وعلى الرغم من أن روسيا دولة نوويّة، يظلّ أن ما ينطبق على صدّام ينطبق، إلى حدّ ما، على فلاديمير بوتين الذي لم يقدّر ردّ الفعل الأوروبي على غزوة أوكرانيا. ثمّة أمور كثيرة أخرى لم يقدرها الرئيس الروسي الذي يعيش في عالم وهمي صنعه لنفسه، على غرار العالم الوهمي الذي حصر بشّار الأسد نفسه فيه وجعله غير مدرك لما حلّ بسوريا والسوريين والأبعاد المترتبة على تدمير المدن السوريّة وتمكّن إيران من إجراء تغييرات ديموغرافية ذات طابع مذهبي في غير منطقة، خصوصا في محيط دمشق وعلى طول الحدود السوريّة مع لبنان. أكثر من ذلك، لم يستوعب بشّار الأسد أن بلده تحت خمسة احتلالات، بما في ذلك الاحتلال الإسرائيلي للجولان والوجود العسكري الروسي بشكل قواعد عسكريّة في حميميم قرب اللاذقيّة، وطرطوس…
عاجلا أم آجلا، سيجد فلاديمير بوتين نفسه مضطرا للاعتراف بأنّ لدى روسيا التي حجم اقتصادها دون حجم الاقتصاد الإيطالي، نقاط ضعف كثيرة. لا تقتصر هذه النقاط على الاعتماد الكلّي للاقتصاد فيها على النفط والغاز وتصدير السلاح، بل أن المجتمع الروسي نفسه صار عجوزا ويعاني من ترهّل لا تعاني منه أيّ دولة أخرى في العالم. فوق ذلك كلّه، تعاني روسيا من تدهور في مجال التغوّل في الاعتداء على الطبيعة من أجل استخراج الثروات الموجودة في باطن الأرض.
ما لا بدّ من ملاحظته أيضا، أن أصحاب الثروات الكبيرة في روسيا، وبينهم عدد كبير من اليهود المنتمين إلى الحلقة المحيطة بالرئيس الروسي، يبحثون حاليا عن طريقة لإنهاء الحرب في أوكرانيا. يبحث هؤلاء عن تسوية معقولة ومقبولة نظرا إلى أن لديهم مصالح ضخمة وعلاقات دوليّة متشعبة بعيدا عن أوهام بوتين وجنونه.
على الرغم من وجود فروقات كبيرة بين أوكرانيا والكويت، وعلى الرغم من أن روسيا دولة نوويّة، يظلّ أن ما ينطبق على صدّام ينطبق، إلى حدّ ما، على فلاديمير بوتين الذي لم يقدّر ردّ الفعل الأوروبي على غزوة أوكرانيا
يدرك رجال الأعمال الروس الكبار من أصحاب المليارات الذين لديهم أيضا مصالح مع رجال أعمال أوكرانيين أن التسوية ضروريّة وأنّ كلمة السرّ هي كلمة “الحياد”. هل يقبل بوتين بصيغة تحيّد أوكرانيا أم يستمرّ في مشروعه التدميري الذي جعل كلّ دولة أوروبيّة، بما في ذلك إيطاليا البعيدة وحتّى سويسرا، تشعر بأنّ شبح أدولف هتلر عاد وأن القارة العجوز تعيش مرحلة صعود النازيّة في السنوات التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الثانيّة منتصف ثلاثينات القرن الماضي؟
لدى الرئيس الروسي ما يدافع به عن موقفه من منطلق أن الغرب لم يحترم، مع انتهاء الحرب الباردة، تعهداته بالنسبة إلى تمدّد حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى حدود روسيا. لكنّ الرد على إخلال الغرب بتعهداته لا يمكن أن يأخذ، في القرن الحادي والعشرين، شكل عمل عدواني يزيل دولة مثل أوكرانيا من الوجود ويهجّر قسما كبيرا من شعبها.
يقول المنطق إن ثمة حاجة إلى تسوية تقوم على “الحياد” الأوكراني. تبدو صيغة التسوية مطروحة على الطاولة أمام بوتين الذي يفترض به إدراك أن ما حصل من ردّ فعل في أوروبا كان انقلابا بكلّ معنى الكلمة. تشعر أوروبا بأنّها صارت مهدّدة وأنّ ما كان مسموحا وما لا يزال مسموحا به للرئيس الروسي في سوريا، ليس مسموحا به في أوكرانيا. في سوريا، جرّب فلاديمير بوتين كلّ أنواع أسلحته بالشعب السوري…
بكلام أوضح، أوكرانيا مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى أوروبا التي ترى نفسها في حاجة هي الأخرى إلى تسوية تغني عن مواجهة ستكلّفها، كما ستكلّف الكون، الكثير في عالم تخلت فيه الولايات المتحدة، حيث توجد إدارة حائرة، عن موقع القيادة وتبدو متجهة إلى صفقة مع إيران ليس معروفا ما الذي سيكون تأثيرها على حلفائها في المنطقة.
العرب