لندن – اختارت الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل وتركيا استراتيجية متشابهة إزاء الأزمة الأوكرانية؛ فهي تلوم ضمنيًّا روسيا على التدخل العسكري، وفي الوقت نفسه تسعى لإبقاء موسكو في صفّها ما يفتح الطريق أمام ثلاث وساطات بأهداف مختلفة ومصالح متباينة.
وبرزت الإمارات في البداية كجهة أولى تُظهر اقترابها من موسكو من خلال قرارها الامتناع عن التصويت لإدانة روسيا في مجلس الأمن الدولي في الرابع والعشرين من فبراير الماضي. وأظهرت من خلال ذلك موقفا بعيدا عما تريده الولايات المتحدة بالرغم من مساعي الأميركيين لإقناعها بالتصويت لفائدة مشروع القرار المعروض.
ويقول مراقبون إن الموقف في مجلس الأمن أخرج البرود الذي يطبع العلاقة بين الإمارات والولايات المتحدة إلى العلن، ويرتبط هذا البرود بعدة مواقف أميركية قادت إلى توسيع الشرخ بين البلدين، من ذلك الامتناع عن تسليم أبوظبي مقاتلات أف 35 بالرغم من تعهد أميركي سابق بتنفيذ الصفقة والاتفاق على كل تفاصيلها.
كما لم يتقبل الإماراتيون طريقة تعامل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مع الهجمات الحوثية على مواقع في العاصمة أبوظبي، وما يوجهه ذلك من إشارات سلبية إلى الحوثيين لمعاودة الكرة بالرغم من مستوى التحالف الوثيق بين البلدين كان يفرض أن تبادر واشنطن إلى الرد السريع بدل المراقبة.
ويعتقد المراقبون أن الإمارات أصبحت تسعى للتحرك وفق مصالحها وأنها لم تعد ملزمة بمراعاة موقف هذه الجهة أو تلك. يضاف إلى ذلك أن لديها مصالح وثيقة مع موسكو من خلال الشراكة الثنائية متعددة الأوجه، وخاصة تحالفهما في أوبك+ كمنتجين رئيسيين للنفط.
وأشاد المحلل السياسي الإماراتي عبدالخالق عبدالله بقرار بلاده، وقال “لم نعد بحاجة إلى ضوء أخضر من واشنطن أو أي عاصمة غربية أخرى لاتخاذ قرار بشأن مصلحتنا الوطنية”. وهذا الحياد هو الذي تريد من خلاله الإمارات أن تلعب دور الوسيط، وشجع أطرافا مختلفة على دعم وساطتها بمن في ذلك الروس والأوكرانيون.
وكان أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات، قد كتب في تغريدة على تويتر أن “أولوياتنا هي تشجيع جميع الأطراف على تبني الدبلوماسية والتفاوض لإيجاد تسوية سياسية تنهي هذه الأزمة”.
ويتقاطع الموقف الإماراتي بشأن الحياد أولا ثم الوساطة مع الموقف الإسرائيلي. ولتل أبيب أيضا مآخذ على إدارة بايدن، بعضها تمت إثارته بشكل علني، والآخر لا يزال كامنا.
ويشعر الإسرائيليون بالضيق من إدارة بايدن لحؤولها دون اتخاذ بعض القرارات، بما في ذلك موقفها من تزويد أوكرانيا بـ”القبة الحديدية” (المنظومة المضادة للصواريخ). وتتحدث تقارير إسرائيلية عن أن البيت الأبيض سعى لإقناع إسرائيل بالتدخل لدى الإمارات وحثها على التصويت لصالح قرار إدانة روسيا، لكن الإسرائيليين لم يكونوا متحمسين لإقناع حليفهم الجديد في الخليج بالتصويت وفق رغبة إدارة بايدن مع أنهم أجروا الاتصال.
وكتب باراك رافيد، مراسل موقع أكسيوس الأميركي في تل أبيب، “أخبرني مسؤول إسرائيلي كبير قبل التصويت بأن وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد اتصل بنظيره الإماراتي، الشيخ عبدالله بن زايد، وأخبره بأن إسرائيل تعتقد أن التصويت لإدانة روسيا هو الشيء الصحيح الذي يجب فعله”.
ويرى محللون سياسيون أن إسرائيل تتبع أجندتها الخاصة في العلاقة مع روسيا، وهي في حاجة إلى تمتين هذه العلاقة يوما بعد آخر بسبب الوجود الروسي في سوريا، مشيرين إلى أن روسيا تتفهم أجندة إسرائيل في المنطقة، وأنها توصلت معها إلى تفاهمات أبرزها حصول إسرائيل على تفويض مطلق لتنفيذ ضربات جوية ضد مواقع إيران وحليفها حزب الله في سوريا، ومنع أن تتحول سوريا إلى مركز لتهديد الأمن القومي لإسرائيل.
وسافر رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت إلى موسكو السبت، وأجرى محادثة لمدة ثلاث ساعات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل الاتصال بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المحاصر. ثم انتقل إلى برلين واجتمع مع المستشار الألماني أولاف شولتس. وأجرى المزيد من المحادثات الهاتفية مع زيلينسكي عند عودته إلى إسرائيل، وتحدث عن التزام إسرائيل “بتعزيز الحوار بين جميع الأطراف، بالطبع بمباركة وتشجيع جميع اللاعبين”.
وفيما حصلت الإمارات وإسرائيل على إشارات من طرفي الأزمة من أجل المضي في الوساطة، يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاستثمار “الحياد” لتقديم نفسه كوسيط يريد أن يحافظ على علاقة وطيدة مع موسكو وفي الوقت نفسه إظهار التزامه كعضو في الناتو، وهو موقف صعب يرتقي إلى درجة التناقض.
ولئن دعا أردوغان إلى وقف فوري لإطلاق النار، وتذرع باتفاقية مونترو لسنة 1936 وحظر دخول أربع سفن حربية روسية إلى البحر الأسود، فإنه لم يتبع عواصم الناتو الأخرى في فرض العقوبات ومنع شركات الطيران الروسية من المجال الجوي التركي.
ويعتقد مراقبون أتراك أن أردوغان يزن كثيرا مواقفه وتصريحاته تجاه روسيا، فهو لم ينس الأزمة التي حصلت في نهاية 2015 بعد إسقاط الأتراك مقاتلة روسية على الحدود السورية، حين اضطر وقتها إلى تقديم رسالة اعتذار علنية لبوتين من أجل وقف سلسلة من القرارات الروسية الرادعة كان أهمها مقاطعة المنتجات التركية.
وتحدث أردوغان الأحد مع بوتين ودعا إلى وقف إطلاق النار لكن الرئيس الروسي بدا غير مكترث. وفي خطوة حذرة كرر الرئيس التركي عرضه للتوسط بين كييف وموسكو، ولا يعرف ما إذا كانت موسكو ستقبل بأن تلعب أنقرة دور الوسيط في ظل تسريبات عن بيع أنقرة أعدادا من المسيّرات لأوكرانيا، وبعضها تسلمته بعد بدء الهجوم الروسي.
ويشير المراقبون إلى أن ثبوت بيع كييف مسيرات في وقت الحرب سيضع أردوغان في مواجهة مع بوتين، وهو شخصية صعبة المراس ولا أحد بإمكانه أن يتوقع الطريقة التي سيرد بها الفعل، خاصة أن تركيا وروسيا لديهما ملاعب مشتركة مثل الحرب في سوريا. ولئن كان تأثير هذه المسيرات لافتا في شمال سوريا وفي ليبيا وفي حرب إقليم قره باغ في 2020 التي فازت فيها أذربيجان، فإن القوة الجوية الروسية قد تعيد هذه المسيرات إلى حجمها الحقيقي، ولن تسمح لأردوغان بأن يظهر بمظهر “مغير اللعبة”.
ويعتقد مراقبون أن نجاح بوتين في فرض شروطه لإنهاء الحرب في أوكرانيا سيجعل اقتراب الإمارات وإسرائيل وتركيا من روسيا بمثابة انتصار للعبة التوازن التي لعبتها هذه الدول الثلاث مع الدب الروسي، خاصة في ظل ارتباك الولايات المتحدة الذي دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تغيير لهجته من تصعيد حاد وحديث عن عقوبات غير مسبوقة إلى رغبة في الحوار وتواصل شبه يومي مع بوتين.
العرب