الخرطوم- أصيبت أغلب الأسواق السودانية بحالة من الشلل والركود التام بعد ساعات من إعلان الحكومة توحيد سعر صرف العملات؛ في محاولة منها لكبح تهاوي الجنيه أمام سلة العملات الأجنبية.
وتوقفت المحلات التجارية -خاصة العاملة في بيع الأجهزة الكهربائية- عن البيع، كما رصدت الجزيرة نت توقف كبار تجار العملات في السوق الموازي عن الشراء والبيع، بعد تنفيذ السلطات حملة أمنية ألقت خلالها القبض على العشرات.
وجاءت أسعار صرف العملات أمس الثلاثاء في البنوك السودانية بفارق كبير عن اليوم السابق، للحاق بالأرقام المتداولة في السوق السوداء، لكن لوحظ أن البنوك وضعت أرقاما مختلفة لسعر الصرف، وهو ما شجع السوق الموازي على المضي في زيادة سعر الجنيه مقابل الدولار، ليصل إلى 580 جنيها مقابل الدولار الواحد، في حين كان السعر في البنوك متفاوتا بين 530 و570 جنيها، حسب مراقبين.
وتتعاظم المخاوف من الآثار الصعبة لقرار الحكومة بتحرير أسعار الصرف من واقع أثرها البالغ على أسعار المنتجات والسلع والخدمات بشكل عام، إذ تتردى منذ أسابيع الأوضاع المعيشية لدرك بعيد.
وأعلن بنك السودان المركزي الاثنين الماضي ملامح سياساته النقدية الجديدة، التي من ضمنها توحيد سعر صرف الجنيه السوداني، لتقوم المصارف وشركات الصرافة بتحديد وإعلان أسعار بيع وشراء العملات الحرة من دون تدخل من البنك المركزي في عملية تحديد الأسعار، وهو ما يثير المخاوف من انهيار اقتصادي شامل رغم تصريحات مسؤولي البنك المركزي بأن الإجراء يأتي في إطار سياسات نقدية إصلاحية متكاملة ومستدامة، تصدر تباعا وتستهدف استقرار سعر الصرف وزيادة قدرة الجهاز المصرفي على استقطاب الموارد.
أسواق مشتعلة
لا تعرف حتى الآن كيفية تغطية الحكومة الفجوة الكبيرة التي سيتسبب فيها تحكم السوق الموازي في سعر الصرف، في ظل تأكيد من مصادر متعددة بأن البنك المركزي السوداني لا يملك أي احتياطات نقدية خاصة بعد قطع المساعدات الدولية إثر الإجراءات التي اتخذها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حين قرر الإطاحة بالحكومة المدنية.
ومع الإعلان عن تحرير الصرف اشتعلت الأسواق بأسعار جنونية، خاصة المنتجات المستوردة، ويقول عبد الله السيد (تاجر ملابس) للجزيرة نت إنه مضطر لمضاعفة أسعار الملابس التي يستوردها من الهند ليتمكن من شراء الدولار وفق الأسعار المحررة لجلب كميات جديدة للحاق بموسم الأعياد، ومع قوله إن الأسر لم تعد قادرة على شراء الملابس قبل الزيادات الأخيرة فإنه يتحدث عن احتمال خسارته مبالغ طائلة ما لم يرفع قيمة المتبقي لديه.
وحسب الخبير الاقتصادي وائل فهمي، فإن الحكومة بخطوة توحيد سعر صرف العملات تطبق اتفاقها المسبق مع صندوق النقد الدولي كجزء من حزمة الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة من الخرطوم، التي بدأتها في وقت سابق بتحرير الجنيه وفقا لسعر الصرف المرن المدار، ثم استكملته حاليا بالتحرير الكامل للجنيه من دون وضع أي اعتبار لتوافر احتياطي من النقد الأجنبي أو عدمه.
وكان المطلوب من الخرطوم إعلان التحرير الكامل للعملات بعد انتهاء المراقبة ووصولها لنقطة القرار والحصول على إعفاءات مالية كبيرة من المؤسسات الدولية في إطار ما يعرف “بالتسهيل الائتماني الممتد”.
ويعتقد فهمي -في حديثه مع الجزيرة نت- أن الحكومة تريد كذلك من وراء الخطوة التي عجلت بها تغطية جزء من العجز في إيرادات الخزينة العامة مع توقف المساعدات الخارجية، وربما لا ترغب الحكومة في طباعة مزيد من العملة المحلية لذلك لجأت لخفض قيمة الجنيه.
خطوة صحيحة
ويرى وزير المالية في حكومة الظل بحزب بناء السودان مجاهد خلف الله أن توحيد سعر الصرف يعد من الخطوات الاقتصادية الصحيحة المستحقة للإشادة، لكنه يلفت إلى أن القرار لن يوقف تدهور قيمة الجنيه السوداني أمام العملات الأخرى، فانخفاض قيمة الجنيه -كما يقول للجزيرة نت- تتسبب فيه الاستدانة المستمرة من بنك السودان، مما يستلزم اتخاذ إجراءات صارمة لتقليل عرض النقود.
ويؤكد خلف الله أن القرار وحده لن يقود لتحسّن الاقتصاد، لكنه حتما سيخفض تسارع التدهور الاقتصادي ويؤدي إلى تحسين وإنعاش الاقتصاد، ويحتاج أولا إلى الاستقرار السياسي والأمني، الأمر الذي يتطلب درجة من درجات التوافق السياسي.
ويشير خلف الله إلى أفضلية وجود احتياطي نقدي أجنبي لمواكبة أي تعديلات في سعر العملة المحلية، لكن ليس من الضروري توافره، حيث تم تنفيذ التحرير الجزئي وفق سعر الصرف المرن المدار في فبراير/شباط من العام الماضي من دون أي احتياطي نقدي.
ويؤكد أن تحرير سعر الصرف لا يتسبب إطلاقا في انهيار العملة المحلية، وإنما الذي يتسبب في تدهورها هو إجراء آخر يعرف بطباعة النقود.
كما يوضح أن السعر الذي كانت تعلنه الحكومة للصرف غير واقعي في كل الأحوال، بينما يحدد السوق الأسود السعر الحقيقي وهو ما واكبته الحكومة بقرارها الأخير استنادا إلى أن السوق الموازي هو المكان الطبيعي للعرض والطلب والمنافسة الحرة.
آثار كارثية
ومع ذلك، يثير قرار الحكومة تحرير الصرف غضب قطاعات واسعة ذات صلة بالتجارة والأعمال، حيث عمم الأمين العام لاتحاد الغرف التجارية الصادق جلال تصريحا تبرأ فيه من المشاركة في إصدار القرارات الاقتصادية الأخيرة، قائلا إنها لم تتخذ بمشاورة الغرفة وإنهم لا يوافقون على قرار توحيد سعر الصرف، كونه يعمل على زيادة المضاربة وتعميق الأزمة الاقتصادية المأزومة أصلا ويقوده سريعا نحو الهاوية، وفق تعبيره.
كما تحدث جلال عن عدم تناسب القرار مع الوضع القائم الآن بل يزيده تعقيدًا.
ويؤكد وائل فهمي أن التحرير من شأنه إفراز آثار كارثية للغاية من واقع اعتماد أغلب المنتجين في السودان على مدخلات إنتاج مستوردة، بما في ذلك القطاع التقليدي، وبالتالي فإن 95% من الاستهلاك والإنتاج يعتمد على الواردات. وسيؤدي القرار إلى رفع الأسعار بشكل جنوني، ويجعل المستهلك عاجزا عن الشراء بسبب الغلاء؛ لتكون المحصلة دفع الاقتصاد نحو الانهيار التام.
المصدر : الجزيرة