أوكرانيا غيّرت العالم… هل تتغيّر أميركا؟

أوكرانيا غيّرت العالم… هل تتغيّر أميركا؟

كشفت الحرب الأوكرانية عمق الضياع لدى إدارة جو بايدن. ليست حال الإفلاس التي تعاني منها السياسة الأميركيّة في الشرق الأوسط والخليج سوى نتيجة تراكمات عمرها سنوات طويلة. طوال ما يزيد على أربعين سنة ارتكبت الإدارات الأميركية المتلاحقة في تعاطيها مع إيران، قبل غيرها، كل الأخطاء التي يمكن ارتكابها في أقصر مدّة من الزمن.

هذا ما لاحظه فلاديمير بوتين الذي أقدم على مغامرة غزو دولة مستقلّة، هي أوكرانيا، في ضوء اكتشافه أن أميركا لم تعد أميركا من جهة وأنّ علاقاتها بدول المنطقة ليست من النوع الثابت بمقدار ما أنّها تعبير عن قصر نظر سياسي لا نظير له من جهة أخرى. يؤكّد ذلك القرار الأميركي بالانسحاب من المنطقة والاكتفاء بالتفرّج من بعيد على “الجمهوريّة الإسلاميّة” تتابع مشروعها التوسّعي، أكان ذلك في لبنان أو العراق أو سوريا أو اليمن. استفاقت أميركا فجأة على أهمّية الخليج بعد ارتفاع أسعار النفط والغاز. لم تجد حلفاء يستطيعون الاستجابة لما تطلب. يعود ذلك إلى أن ليس في واشنطن الآن من يدرك أن العلاقة بين الحلفاء علاقة أخذ وردّ وليست علاقة فرض إملاءات متى تدعو الحاجة الأميركيّة إلى ذلك.

◙ سياسة مواجهة الصين ارتدّت على أميركا نفسها، خصوصا أن الأخيرة تبدو المستفيد الأوّل من المغامرة البوتينية ومن أن الرئيس الروسي سيكون في حاجة إليها أكثر من أيّ وقت مضى في هذه المرحلة

منذ اللحظة التي لم تردّ فيها إدارة جيمي كارتر على احتجاز “الجمهوريّة الإسلاميّة” 52 دبلوماسيا أميركيا كانوا في سفارة طهران في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1979، ثمّة مسار أميركي ذو طابع انحداري. جاءت مواقف إدارة بايدن لتتوجه من خلال عجزها عن فهم الشرق الأوسط والخليج لتكريس هذا المسار. لم تفهم معنى إطلاق يد إيران في المنطقة ولم تفهم معنى التدخّل الروسي في سوريا. تركت الميليشيات الإيرانيّة والقوات الروسيّة تقتل الآلاف من السوريين من دون شفقة من أجل ضمان بقاء بشّار الأسد ونظامه الأقلّوي في دمشق.

إذا كان عدد الذين هجرتهم روسيا من أوكرانيا تجاوز المليونين في خلال أسبوعين، فإنّ عدد السوريين الذين هاجروا من بلدهم أو الذين انتقلوا من منطقة إلى أخرى داخل سوريا نفسها، تجاوز العشرة ملايين وذلك منذ العام 2011. غيّرت إيران، بمساعدة روسيّة مباشرة منذ العام 2015، طبيعة بلد عربي مهم… فيما أميركا في مقعد المراقب. تتدخّل أحيانا بطريقة مضحكة وتكتفي في معظم الأحيان بتسجيل ملاحظات.

ثمّة معادلة في غاية البساطة لم تستوعبها إدارة بايدن وقبلها إدارة باراك أوباما. تقوم هذه المعادلة على أن من يمتلك ذرة من العقل في المنطقة العربيّة كلّها لا يمكن إلا أن يدعو إلى تقارب عربي – إيراني… في حال كانت شروطه واضحة. لم يتردد أوباما في حديث أدلى به في مثل هذه الأيّام من العام 2014 إلى إحدى الوسائل الإعلامية الكبرى (بلومبرغ فيو) في التركيز على أهمّية إيران وحقها في لعب دور على الصعيدين الإقليمي والعالمي. من قال له إن العرب عموماً، من سنّة وشيعة ودروز ومسيحيين يعترضون على مثل هذا التقارب وعلى الدور الإيراني؟ هل المشكلة في التقارب أم في السذاجة الأميركية التي تحصر المشكلة مع إيران في الملفّ النووي الذي كان أوباما يعتقد أنه في الإمكان التوصل إلى صفقة في شأنه… وقد توصّل إلى مثل هذه الصفقة التي خدمت “الجمهوريّة الإسلاميّة” ومشروعها.

في أساس المشكلة، التي من نتائجها استخفاف فلاديمير بوتين بالولايات المتحدة، سياسة اتبعتها واشنطن قامت على رفض أخذ العلم بالعدوانيّة الإيرانيّة ثمّ بالعدوانيّة الروسيّة. باستثناء اغتيال إدارة دونالد ترامب لقاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني” مطلع العام 2020 بعيد مغادرته مطار بغداد، لم تقدم الولايات المتحدة، في تعاطيها مع إيران، على ما يثبت أن لديها أنيابا تستطيع استخدامها متى تدعو الحاجة إلى ذلك.

لم تردّ يوما على تفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت في 23 تشرين الأوّل – أكتوبر ولا على تفجير السفارة الأميركية في عين المريسة في شهر نيسان – أبريل من تلك السنة. انسحبت الولايات المتحدة عسكريا من لبنان وقتذاك. تركت البلد لإيران وللنظام السوري وصولا إلى ما وصل إليه لبنان حاليا. ما لبث لبنان أن تحوّل ورقة إيرانيّة لا أكثر. صارت إيران، ولا أحد غير إيران، تقرّر من هو رئيس الجمهوريّة المسيحي (الماروني) في لبنان…

◙ أميركا استفاقت فجأة على أهمّية الخليج بعد ارتفاع أسعار النفط والغاز. لم تجد حلفاء يستطيعون الاستجابة لما تطلب

من سلّم العراق على صحن من فضّة إلى إيران في العام 2003، كان إدارة بوش الابن الجمهوريّة. أدّى تسليم العراق إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى زلزال ما زالت تفاعلاته تهزّ المنطقة كلّها إلى يومنا هذا. الأكيد أن فلاديمير بوتين كان يراقب أميركا والتحولات الأميركيّة محاولا الاستفادة من كلّ ما يدور في العالم. لم يعد لديه شكّ في أنّه أمام إدارة حائرة ومترددة وذلك في ضوء الطريقة التي انسحبت فيها من أفغانستان صيف العام الماضي.

بغض النظر عمّا إذا كان الرئيس الروسي، الذي تفاجأ برد الفعل الأوروبي على غزوة أوكرانيا، سيتراجع أم لا، يظلّ السؤال هل ستعيد الولايات المتحدة النظر في سياستها في المنطقة… أم ستستمر في استرضاء إيران؟

ذلك هو السؤال الكبير الذي سيفرض نفسه في الأشهر القليلة المقبلة مع ما يعنيه ذلك من حاجة إلى خروج أميركي من عقدة إيران ومن عقدة أن الإرهاب عربي، بل سنّي تحديدا. لا فارق بين “داعش” وما ترتكبه ميليشيات إيران في العراق وسوريا واليمن وحتّى في لبنان. ليس معروفا هل في واشنطن من يستطيع قراءة هذه الواقع بروح جديدة أم لا…

في انتظار الجواب عن السؤال الكبير، لا وجود لأدنى شكّ في أن العالم تغيّر. غيرت حرب أوكرانيا العالم. أعادت تأكيد أهمّية منطقة الخليج والشرق الأوسط التي حاولت إدارة جو بايدن تجاهلها من منطلق أن الأولويّة للمواجهة مع الصين. ارتدّت سياسة مواجهة الصين على أميركا نفسها، خصوصا أن الأخيرة تبدو المستفيد الأوّل من المغامرة البوتينية ومن أن الرئيس الروسي سيكون في حاجة إليها أكثر من أيّ وقت مضى في هذه المرحلة… في حين أن لا مصلحة لدى دول الخليج في اتخاذ أي موقف عدائي من بكين!

العرب