شهدت مصر في الثامن عشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر الجاري، إنطلاق أول جولة من الإنتخابات البرلمانية، التي هي الأولى منذ تولي الجنرال عبد الفتاح السيسي منصب رئاسة الجمهورية.و وفقاً لخارطة الطريق التي أعلنها الرئيس السيسي عقب الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسي في تموز/يوليو 2013، كان من المقرر عقد الإنتخابات البرلمانية قبل الإنتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام إلا أن الرئيس المؤقت عدلي منصور أصدر قراراً بتأجيلها حتى مطلع العام الجديد. وبعد صدور قرار المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون الإنتخابات في مطلع شهر آذار/مارس 2015، أعلنت اللجنة العليا للإنتخابات تأجيل موعد الإنتخابات للمرة الثانية وتحديدها جدولاً زمنياً جديداً لإجرائها. وبعد عامين أمضتهما مصر بدون مجلس تشريعي كان فيها الرئيس هو المشرع الوحيد، تم أخيراً عقد الإنتخابات البرلمانية، والتي يجري التنافس فيها بين 5,420 مرشحاً على 448 مقعداً فردياً بينما يتنافس 420 مرشحاً في نظام القائمة المطلقة على 120 مقعداً مخصصاً للقوائم.
وأظهرت المؤشرات الأولية للتصويت في اليوم الأول والثاني من المرحلة الأولى تدنياً ملحوظاً في نسبة المشاركة مع تضارب أقوال المسؤولين والجهات الرسمية ومنظمات مراقبة الإنتخابات، حول نسبة المشاركة في اليوم الأول من المرحلة الأولى. وقد أعلنت “اللجنة العليا للأنتخابات” أن نسبة المشاركة بلغت واحد بالمائة في اليوم الأول، ولكنها أضافت أيضاً أن ربع الناخبين المؤهلين شاركوا في اليوم الثاني، إلا أن رئيس الوزراء المصري شريف إسماعيل أعلن أن نسبة المشاركة بلغت نحو 15 بالمائة. ومن ناحية أخرى أعلن “المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام” (“تكامل مصر”)، أن نسبة المشاركة في المرحلة الأولى بلغت 3.6 بالمائة.
ووفقاً للمؤشرات الأولية فقد شهدت المرحلة الأولى عزوفاً ملحوظاً عن المشاركة من قبل الشباب الذين يمثلون 60 بالمائة ممن لهم حق التصويت. والشباب في مصر هم من يقعون في الفئة العمرية ما بين 18 – 29 عاماً. ويمكن القول أن تدني نسبة مشاركة الشباب في الإستحقاق الثالث لخارطة الطريق ترجع إلى عدة عوامل سياسية واقتصادية تجمعت لتولد حالة من الإحباط والغضب لدى شريحة كبيرة من الشباب الذي استشعر حالة التضيق على الحريات منذ انقلاب تموز/يوليو 2013. إلا أن حالة الإحباط وعدم الرضا بين صفوف فئة الراشدين من السكان أقل بكثير منها عند فئة الشباب. فقد أظهر إستطلاع للرأى تم نشره على موقع “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” أن سياسات الحكومة المصرية حصدت تقييم “إيجابي جدّاً” (48 بالمائة) أو “إيجابي إلى حدّ ما” (24 بالمائة) على الأقلّ” ما بين فئة الراشدين فى مصر. والتفسير الأرجح لهذه المفارقة بين فئة الشباب والراشدين هو أن الأخير غالباً ما يقيم أداء الحكومة من منظور الأمن والإستقرار على عكس الشباب الذى يهتم بشكل كبير بمسائل الإصلاح السياسى والإقتصادي. ومما زاد الطين بِلَّة، حالة التردي المستمر للوضع الاقتصادي الذي انعكس بشكل كبير على الشباب وفشل نظام 30 يونيو في اتخاذ اجراءت وسياسات فعالة لأحتواء الأزمة. وقد لعب الخطاب الإعلامي التحريضي الذي بات يهاجم ويهدد ويخون جميع الأصوات المعارضة للنظام السياسي الحالي دوراً كبير في عزوف الشباب عن المشاركة، إضافة إلى تخلي النخبة المصرية عن الشباب المطالب بالإصلاح السياسي.
بالرغم من ظهور الرئيس عبد الفتاح السيسىي على شاشة التلفزيون يدعو المواطنين ويحثهم على ضرورة المشاركة في العملية الإنتخابية، إلا أن دعوته لم تجد آذاناً صاغية بين فئة الشباب الذي أغلقت في وجهه جميع قنوات الرأي والتعبير خاصة بعد إصدار قانون التظاهر سيء السمعة الذي أصدر في غياب البرلمان، والذي أطلق العنان لقوات الأمن لإستخدام القوة المفرطة ضد من تسول له نفسه التظاهر ضد سياسات النظام الحالي. وقد أدى قانون التظاهر إلى العديد من الإعتقالات بين صفوف الشباب خلال التظاهرات وأحداث العنف السياسي التي شهدتها مصر في الأشهر القليلة الماضية. وباءت دعوات الشباب إلى الرئيس لأصدار عفواً عن المعتقلين السياسين بالفشل. وطال هذا التضييق أيضاً مواقع التواصل الإجتماعي التي لعبت دوراً كبيراً في إندلاع ثورة يناير. فخلال الاشهر الماضية تم إعتقال وسجن العديد من نشطاء مواقع التواصل الإجتماعى، فأصبح كل من ينتقد النظام هدفاً للاجهزة الأمنية وفريسة لقضاء مُسيس يصدر أحكام عشوائية وبالجملة. وقد أدركت الغالبية العظمى من الشباب أن ثورتهم التي بذل فيها الدم والجهد ذهبت أدراج الرياح خاصة بعد أن شاهدوا عودة العديد من رموز نظام مبارك للمشاركة كمرشحين في العملية الإنتخابية. ومن ثم كانت مقاطعة الإنتخابات البرلمانية الحالية، الأداة الوحيدة والآمنة التي عبر من خلالها الشباب عن استيائهم من سياسة القمع والتهميش التي ينتهجها النظام، فكانت المقاطعة بمثابة إضراب صامت لم يعكس آراء الشباب في اختيار ممثليهم في البرلمان بل كان استفتاء على أداء نظام السيسي خلال الستة عشر شهراً التي مرت منذ انتخابه رئيسأ للجمهورية.
وقد لعبت الحالة الإقتصادية المتردية دوراً كبيراً في عزوف الكثير من الشباب عن المشاركة، أولئك الشباب الذين قاموا بثورة كبيرة من أجل “العيش والحرية والعدالة الإجتماعية” مطيحين بنظام مبارك ورموزه من الفاسدين، لم يستشعروا أية تغييرات إقتصادية‘ منذ وصول السيسي لسدة الحكم. وبالرغم من محاولة الحكومة تقديم حزمة من الخطط لمعالجة الوضع الإقتصادي الذي يعانى من تفشى الفساد، والبطالة، واتساع عجز الموازنة جراء دعم الوقود، إلا أن معظم تلك الخطط أثبتت عدم جدواها. وبدوره انعكس هذا الوضع الإقتصادي المتردي على الحياة اليومية للمواطن الذي أصبح يعانى من شبح الغلاء في ظل عجز النظام عن توفير أبسط إحتياجاته من صحة وتعليم وخدمات. ولم يشعر هذا المواطن بأى مردود للمشروعات الإقتصادية التي نفذتها الحكومة مثل مشروع قناة السويس الجديدة إضافة إلى المشروعات الوهمية التي أطلقها النظام مثل مشروع المليون وحدة سكنية ومشروع العاصمة الجديدة والذي تشدق بها الإعلام حتى اكتشف المواطن أنها كانت فقط لعبة غرضها الدعاية لإضفاء المزيد من الشرعية على النظام الحالي. فالمواطن الذي أصبح مشغول البال بقوت يومه نتيجة تردي الوضع الإقتصادي أصبح يعاني من الإحباط ولم يعد يؤمن بأن مشاركته في العملية الإنتخابية ستغير من الأمر شىء.
ولم يقتصر الفشل على النظام السياسي فقط، بل امتد ليشمل النخبة السياسية التي فشلت في التواصل مع الشباب وقامت بتهميشهم. فقد اعتبرت أنهم مجرد شباب متحمس لا يمتلك الخبرات الكافية التي تمكنهم من المشاركة الفعالة في النظام السياسي، واعتمدت مواقف متنافية مع ما كان يصبوا إليه الشباب من إصلاح سياسي وحرية. فبدلاً من مساندة هؤلاء الشباب والإستفادة من طاقاتهم في تحقيق النمو الإقتصادي والإصلاح السياسي، ارتمت تلك النخبة في أحضان النظام وباتت تتهم الشباب المعارض بالخيانة والعمالة للخارج. حتى أنها بدءت تدعو النظام الحالي إلى ضرب المعارضة بقبضة من حديد. فتلك النخبة التي كان من المفترض أن تكون عوناً للشباب الذي يسعى إلى تحقيق الإصلاح، أصبحت، بتخاذلها، هي من تقف حائلاً أمام التحول الديمقراطي.
ولعب الإعلام الموالي للدولة والإعلام الخاص المملوك لرجال الأعمال، دوراً كبيراً في عزوف الشباب عن المشاركة في العملية الإنتخابية. فهذا الإعلام الذي اتخذ موقفاً عدائياً ضد المعارضين من الشباب وأصبح يكيل لهم الإتهامات بمحاولة تدمير الدولة المصرية هو نفس الإعلام الذي حاول تحفيزهم وحثهم على المشاركة في العملية الإنتخابية. وكأن الإعلام يدعوا الشباب إلى المشاركة في مسرحية هزلية هدفها حفظ ماء وجه النظام أمام العالم، وبعدها ينتهى دورهم بالتهميش المطلق. وبعد انتهاء اليوم الأول من التصويت وتأكد الإعلام أن الشباب قد قاطع بالفعل العملية الإنتخابية، غابت البسمة الصفراء التي كان يرتسمها مقدمو البرامج الحوارية عن وجوههم طمعاً في دفع الشباب إلى المشاركة وحلت محلها لغة التهديد والوعيد. فهناك من الإعلاميين من هدد الشباب الذين قاطعوا الانتخابات بأنه لن يكون لهم أدنى حق في مطالبة الحكومة بخدمات أو وظائف وشككوا في وطنيتهم.
إن حالة الإحتقان السياسي الحالية التي تمر بها مصر لن تنتهي إلا إذا استفاق النظام الحالي وأدرك أن الشباب الذين قاموا في أيام معدودة بالإطاحة بنظام فاسد ظل قابعاً على صدورهم لسنوات عديدة، يمكنه أن يغضب ويثور مرة أخرى. وقد يري البعض أن عدم مشاركة الشباب في العملية الإنتخابية ربما تعكس حالة من الجمود السياسي وليس الإعتراض خاصة أن الشباب أصبح منهمكاً بعد الأحداث المتوالية التي مرت بها البلاد عقب ثورة يناير. لكني أرى النقيض من ذلك؛ فمقاطعة الإنتخابات لم تحدث بشكل تلقائي وإنما كانت دعوة منظمة من قبل الشباب على مواقع التواصل الإجتماعى لنشر رسالتهم وتعبئة الشباب الآخرين. فثورة يناير التي اطاحت بنظام مبارك انطلقت شرارتها من صفحات التواصل الإجتماعي التي كانت الأداة الوحيدة والآمنة للتعبيرحينذاك. وأخيراً،لا يمكن للمسار الديمقراطي في مصر أن يستمر في ظل حالة القهر والظلم والتهميش والتحريض الغير مسبوقة. ومن ثم يجب أن يعمل النظام المصري على الشروع في إجراء مصالحة وطنية والدخول في حوار حقيقى مع الفرق السياسىية المتناحرة للوصول إلى تسوية لحالة الإحتقان السياسي التي تقف حالياً أمام أي تنمية وإصلاح. ويتوجب على النخبة السياسية أن تلعب دوراً أكثر ايجابية بمشاركة الشباب في دعم الدولة المدنية والإلتزام بتحقيق اهداف ثورة يناير وبعيداً عن المصالح والأهواء الشخصية. وأرى أن أولى الخطوات التي يجب أن يتخذها النظام إن كان بالفعل يسعى إلى إنهاء الأزمة السياسية الحالية وإرساء مبادئ العدالة الإنتقالية هو الإفراج غير المشروط عن جميع المعتقلين السياسيين، الذين يمثل الشباب الأغلبية العظمى منهم. كما يجب أن يلتزم الإعلام المصري بخطاب إعلامي محايد لا يزيف الحقائق وخالي من التحريض.
محمد عبدالعزيز
معهد واشنطن