مرض اسمه إيران

مرض اسمه إيران

إذا لم تكن الصواريخ الباليستية الـ12 التي أطلقتها إيران على موقع قريب من القنصلية الأميركية في أربيل قد لقنت إدارة الرئيس جو بايدن درسا، فما شيء يمكنه أن يثبت أنها أقدر على السمع من حجر أصم.

وإيران تمارس التعديات والتهديدات ضد الولايات المتحدة منذ 43 عاما من دون انقطاع. ولقد أمنت العقاب المناسب باستمرار، لا لشيء إلا لأن قادة الولايات المتحدة، منذ أيام جيمي كارتر إلى يومنا هذا، ظلوا يعتبرون إيران قوة عصية على التحدي.

هذا هو السبب الذي يجعلهم يتراجعون أمامها ويؤثرون تقديم المغريات، بدلا من الأخذ بحلول جذرية ضدها.

◙ العودة إلى الاتفاق النووي وتقديم الأموال لسلطة المرض، سوف تقطع الطريق على هذا الاتجاه، رغم أنه الوحيد الذي يمكنه أن يقتلع السرطان

إيران تفهم ذلك جيدا. وتتصرف على أساسه. فتزيد في توجيه الإهانات للولايات المتحدة، وتزيد في الاستخفاف بها وبمصالحها في المنطقة، حتى بلغ الأمر بالرؤساء الأميركيين الثلاثة، باراك أوباما ودونالد ترامب وهذا الأخير، أن يفروا من أمامها، عاجزين حتى عن الرد على هجماتها المسلحة. وحتى ليبدو أنهم كانوا يشجعونها على المزيد.

لا تحتاج إيران أن يكون لها عملاء مأجورون في البيت الأبيض ولا في البنتاغون. ذلك أن لديها هناك من يعملون في خدمتها، بما يفترضون أنه ذكاؤهم الخاص، بينما يقول الواقع إنهم أجهل من الجهل نفسه.

إيران أصبحت مرضا سياسيا وأمنيا وعسكريا لا شفاء منه، منذ انقلاب العام 1979 الذي جاء بالخميني إلى السلطة. وكأيّ مرض مقاوم للمضادات الحيوية، فقد فشلت الإغراءات والتسويات السياسية المرنة في الحد من مخاطره.

نزعات هستيرية تمتزج فيها الأوهام والخرافات المذهبية بالاستعداد لممارسة أبشع الأعمال الإجرامية، مع قناعة مطلقة بأنها قابلة للغفران، إنما تجعل أتباع الولي الفقيه مجرد أدوات عمياء، لا يهمها القتل، ولا يحرك مشاعرها سفك الدماء. الكل شهداء. الأحياء منهم والأموات.

ها هنا فقط تكمن قوة إيران الحقيقية. إنها قوة مرض يستحكم بالنفوس وينزع عنها إنسانيتها ويجرّدها من كل اعتبار، حتى ليصعب أن تكون من جنس البشر. إنهم حيوانات ضالة غلبت عليها الشراسة، والاعتقاد المطلق بأنها هي الحق، مهما ارتكبت من الفظائع.

ولكنها ليست كل إيران. الجزء الأكبر من الإيرانيين نجحوا في أن يستردوا إنسانيتهم من هذا المرض. إلا أنهم ظلوا بلا حول ولا قوة في مواجهته. لأن الطرف الخارجي ظل عاجزا عن المشاركة في توجيه ضغوطه إلى الداخل، مكتفيا بمناوراته وضغوطه الخارجية.

◙ قادة الولايات المتحدة عجزوا عن الرد على هجمات إيران

ولك أن تتخيل التوقيت؛ أن تتخيل معناه. لقد أُطلقت تلك الصواريخ على أربيل، على أعتاب توقيع وثائق العودة إلى الاتفاق النووي، ممّا يوفر لإيران عشرات المليارات من التمويلات ويعيدها إلى سوق التجارة العالمية بالنفط وبغيره. وهي أُطلقت على أعتاب المساعي لتشكيل حكومة جديدة في بغداد، كان القادة الأكراد أنفسهم لعبوا دورا في تسويق مطالب قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني لكي تضم الجماعات المسلحة الموالية لإيران. وعلى أعتاب محادثات جوهرية مع السعودية لتطبيع العلاقات معها ومع باقي دول الخليج.

لقد سخرت تلك الصواريخ من كل هذا، دفعة واحدة.

يخطئ من يظن أنها كانت نوعا خطأ في التقديرات. بالعكس تماما. إنها تعكس بدقة صواب التقديرات في إيران.

هذه التقديرات تقول، نحن قوة لا يغلبها غالب، مهما فعلت.

الوجه الحقيقي للمسألة هو أن الولايات المتحدة التي هربت من أمام إيران، وآثرت أن تخسر مصالحها هي نفسها، لكي لا تخوض المواجهة، إنما وفرت لإيران تلك القناعة بأنها قوة لا يمكن تحديها، وأنها تستطيع أن تضرب أيّ أحد، من دون أن تخشى العواقب.

لقد استغنت إيران حتى عن وكلائها الذين كانت تتغطى بهم. ولسوف تجرؤ على أن تضرب السعودية وأيّ دولة أخرى في الخليج أيضا. فقط انتظر، وسترى.

قد يمكن للحجارة الصماء في البيت الأبيض والبنتاغون أن تفهم المخاطر، إلا أن القائمين على الأمر في واشنطن أصم من تلك الحجارة. هؤلاء يريدون المحافظة على مصالحهم في المنطقة، إلا أنهم لا يريدون الدفاع عنها! شيء عجيب فعلا.

إنهم يزيدون في تقديم الإغراءات لإيران، ويطلقون يدها في الوقت نفسه لكي تتحدى نفوذهم ومصالحهم ومصالح حلفائهم. ويتصرفون كما لو أنهم يعجزون عن فهم البديهيات.

دول المنطقة تملك قدراتها الدفاعية الخاصة. إلا أن قرار الحرب ضد إيران لا يمكن من الناحية الفعلية اتخاذه من دون مشاركة الولايات المتحدة وكل ذوي المصالح الكبرى في العالم.

مصالح هذه الدول في أوكرانيا ليست أكبر من مصالحها في الخليج! أفهل رأيت كيف أن الحجر الأصم يكاد يصرخ، بينما البيت الأبيض بلا أذن تسمع ولا عين ترى؟

أوكرانيا بلد مسالم أصبح ضحية للعدوان، مما يستوجب الدعم والتضامن. هذا صحيح. وهو بلد أوروبي طبعا، يجعل نزعة العيون الزرق، تشتغل وتغلي أكثر. هذا صحيح أيضا. ولكن هل يجب أن ترتدي دول الخليج عيونا زرقا لكي تدافع الولايات المتحدة وأوروبا عن نفوذها وميزانها التجاري مع هذه الدول؟ وهل الحروب الإيرانية في العراق ولبنان واليمن، عمل عدوانيّ أقل؟

لا يوجد حل خارجي لمكافحة المرض الإيراني. الحرب ليست خيارا لأنها لا تملك إلا أن تكون ساحقة تماما. شيء أشبه بعمل جراحي يقتلع السرطان من جذوره.

أحد أبرز المخاطر التي تواجه هذا الخيار، هو أن الاقتصاد العالمي سوف يجثو على ركبتيه إذا انقطعت إمدادات النفط. حتى الأسعار التي قالت إن برميل النفط سيبلغها بمقاطعة روسيا، بما قد يصل إلى 300 دولار، سوف تكون متواضعة إذا ما توقف الإمدادات عبر مياه الخليج، بما أنها تغطي نحو خُمس الإمدادات العالمية.

◙ إيران لا تحتاج أن يكون لها عملاء مأجورون في البيت الأبيض ولا في البنتاغون. ذلك أن لديها هناك من يعملون في خدمتها، بما يفترضون أنه ذكاؤهم الخاص، بينما يقول الواقع إنهم أجهل من الجهل نفسه

ولكن ذلك لا يجب أن يعني إعاقة الحل الداخلي، كما أنه لا يجب أن يعني تقديم التسهيلات والتمويلات للمرض لكي يزيد في شراسته وتهديداته.

الحجر الأصم يمكنه أن يفهم، أن العودة إلى الاتفاق النووي سوف تمنح عصابات الولي الفقيه ما يبرر لها سحق التمرد الداخلي ضدها في إيران، وما يبرر لها توجيه التهديدات إلى كل من تشاء، بينما يغلبها الشعور بأنها قوة لا يغلبها غالب، وأنها تستطيع أن تطرد الولايات المتحدة من المنطقة.

الخشية من امتلاك إيران لسلاح نووي، هي مجرد ذريعة كاذبة للتماهي مع المرض ولقبول تهديداته.

النظر إلى خطر، وتجاهل آخر، ليس هو الحل. استمرار الحصار وتشديد العقوبات الاقتصادية وفرض أقصى أشكال العزلة السياسية والدبلوماسية، هو الحل. وحتى ولو اختارت إيران أن تمارس تهديدات موضعية كتلك الصواريخ الـ12، فإن ردودا موضعية مماثلة قد تكفي للحؤول دون الانزلاق إلى حرب مفتوحة. فإيران تخشاها أيضا.

لقد حققت العقوبات هدفا غير مباشر، سوف يثبت أنه هو الأهم. فهي عزلت المرض داخل إيران، وكشفت فضيحته أمام الملايين من الإيرانيين، وأتاحت الفرصة لهم للتمرد على سلطة الولي الفقيه.

العودة إلى الاتفاق النووي وتقديم الأموال لسلطة المرض، سوف تقطع الطريق على هذا الاتجاه، رغم أنه الوحيد الذي يمكنه أن يقتلع السرطان.

وبدلا من إعادة تمويل سلطة العدوان، فإن تمويل المعارضة الإيرانية، بتلك الأموال المجمدة، أجدى وأنفع. هذا هو الحل الوحيد الذي يمكن أن يتحقق بفضله الشفاء التام.

العرب