أنتجت الانتخابات المبكرة التي جرت في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وضعا غير مسبوق فيما يتعلق بعلاقات القوى السياسية بين الفرقاء السياسيين، تحديدا المسلحين منهم، وهو ما فرض جملة من الإشكالات المتداخلة كشفت عن أزمة النظام السياسي في العراق!
لقد أثبتت الوقائع أن لا أحد في العراق يلتزم بما يقوله الدستور أو تقرره القوانين، فقد أعطى الدستور العراقي للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات اليد العليا والحصرية فيما يتعلق بالانتخابات، كما أن قانون المفوضية قرر أن الاعتراضات والطعون المتعلقة بالانتخابات، تتولاها هيئة تمييزية قضائية مكونة من ثلاثة قضاة تمييز يفترض أن قراراتهم باتة وغير قابلة للطعن ومع ذلك لم يلتفت أحد الى كل ما تقدم!
ولا يتعلق الأمر هنا بالقوى السياسية فحسب، بل بسلطات الدولة نفسها. فقد قرر قانون الانتخابات مثلا أن من شروط الترشيح لعضوية مجلس النواب أن لا يكون المرشح مشمولا بقانون المساءلة والعدالة المتعلق بالانتماء لحزب البعث، وقد أصدرت مفوضية الانتخابات قرارات عديدة باستبعاد عشرات المرشحين لشمولهم بقانون المساءلة والعدالة، ولكن هيئة التمييز للمساءلة والعدالة، المكونة من سبعة قضاة، التي يفترض ان قراراتها “قطعية وباتة” كما ينص القانون، قضت بعدم شمول 168 من هؤلاء المستبعدين بالترشح للانتخابات! وكان يجب أن يكون الأمر منتهيا عند هذا الحد، ولكن الهيئة القضائية في المفوضية العليا للانتخابات تدخلت لتنقض هذا “القرار القطعي والبات” لتمنع الغالبية العظمى من هؤلاء من الترشح، وتسمح لبضعة أسماء بالترشح، مع أن الجميع مشمولين بالمادة القانونية نفسها، دون أن يكون لديها الحق، أو الاختصاص، أو الصلاحية للقيام بذلك، ودون أن تكلف نفسها عناء تسويغ الفضيحة القانونية التي قامت بها أصلا!
بعد إعلان النتائج الأولية للانتخابات، كان يفترض ان تكون الهيئة القضائية الثلاثية، مرة أخرى، هي الحكم الأخير في هذا الموضوع، فقراراتها “باتة” كما يقر القانون! لكن المحكمة الاتحادية قبلت الدعوى التي قدمها الإطار التنسيقي من دون أن يكون من اختصاصاتها النظر في قرارات قضائية صادرة عن هيئات مشكلة وفق القانون تكون قراراتها نهائية وغير قابلة للطعن، كما قررت المحكمة الاتحادية نفسها في عشرات المسائل، وانتظرت أكثر من شهر لتعلن، في النهاية، أنه ليس من اختصاصها النظر في هكذا دعوى من الأصل! مع الافراط هذه المرة في تجاوز صلاحياتها واختصاصاتها، والمنطق نفسه، لتتحول من مؤول إلى مشرع حين قررت “وجوب” تعديل قانون الانتخابات ” واعتماد نظام العد والفرز اليدوي بدلا من العد والفرز الالكتروني”! وكان واضحا للجميع أن هذا التأخير في تقرير بديهية قانونية، كان لأغراض سياسية تتمثل في إتاحة الوقت للفرقاء السياسيين للوصول إلى توافق سياسي!
لا يمكن فهم تراكم الانتهاكات التي تقوم بها المحكمة الاتحادية إلا في سياقها السياسي وهو سياق يجعل الدستور والقانون مجرد أداة تستخدم لشرعنة هذا السياق السياسي مهما انحرف وانتهك!
هناك مادة دستورية تقرر بأن يُنتخب رئيس الجمهورية خلال ثلاثين يوما من تاريخ انعقاد أول جلسة لمجلس النواب، (كان ذلك بتاريخ 9 كانون الثاني/ يناير 2022) وبالفعل قامت رئاسة مجلس النواب في اليوم التالي بالإعلان عن فتح باب الترشيحات لمنصب رئيس الجمهورية كما يقتضي القانون، ثم حددت يوم 7 شباط/ فبراير موعدا لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية. لكن المحكمة الاتحادية دخلت على خط الأزمة لتقرر أولا إصدار أمر ولائي بتاريخ 13 كانون الثاني/ يناير بإيقاف عمل هيئة رئاسة مجلس النواب المنتخبة، قبل أن تعود وترد الدعوى الأصلية المتعلقة بذلك بتاريخ 25 كانون الثاني/ يناير. ولتصدر أمرا ولائيا آخر يوم 6 شباط/ فبراير، أي قبل يوم واحد من موعد الجلسة المقررة، فنقرر تأجيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية مؤقتا لحين البت في الدعوى المتعلقة بالمرشح هوشيار زيباري! دون أن تلتفت المحكمة الاتحادية إلى أنها بذلك تنتهك نصا دستوريا صريحا بوجوب انتخاب رئيس الجمهورية خلال مدة ثلاثين يوما! لتعود المحكمة الاتحادية وتصدر قرارا بعدم صحة قرار مجلس النواب بالموافقة على قبول ترشيح هوشيار زيباري لمخالفته المادة المتعلقة بحسن السيرة والسلوك، وهو قرار ينتهك، بشكل صريح، المادة الدستورية التي تنص على أن “المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة”، فقد أدانت المحكمة الاتحادية العليا الرجل وعاقبته دون “محاكمة قانونية عادلة”!
وبعد إصدار رئاسة مجلس النواب قرارا بفتح باب الترشيح ثانية لمنصب رئيس الجمهورية، في مخالفة صريحة لقانون أحكام الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية، أكملت المحكمة الاتحادية سلسلة الانتهاكات التي قامت بها بقرارها القاضي بجواز إعادة فتح باب الترشيح مجددا لمنصب رئيس الجمهورية لكن بقرار من مجلس النواب وليس بقرار من رئاسة المجلس! في انتهاك صريح للمادة الدستورية التي حددت مدة ثلاثين يوما لانتخاب الرئيس أولا! وفي انتهاك آخر لقانون أحكام الترشح لمنصب رئيس الجمهورية!
لا يمكن فهم تراكم الانتهاكات التي تقوم بها المحكمة الاتحادية إلا في سياقها السياسي، وهو سياق يجعل الدستور والقانون مجرد أداة تستخدم لشرعنة هذا السياق السياسي مهما انحرف وانتهك!
اليوم، وبعد مرور أكثر من 165 يوما بالتمام، على إجراء الانتخابات المبكرة، ما تزال عقبة انتخاب رئيس الجمهورية، التي كان يفترض أن تُحل قبل أكثر من 48 يوما، على حالها، وليس هناك مؤشرات على إمكانية تجاوز هذه العقبة في جلسة مجلس النواب المخصصة لانتخاب رئيس الجمهورية المقررة يوم غد السبت 26 آذار/ مارس، لاسيما أن قرار المحكمة الاتحادية القاضي بأن يكون نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية هو الثلثين وليس الأغلبية المطلقة، قد منح للإطار التنسيقي والمتحالفين معه، الفرصة لتعطيل قدرة التحالف الأكثر عددا (الذي أعلن مؤخرا تحت مسمى “تحالف إنقاذ الوطن”) على تمرير مرشحه لرئاسة الجمهورية، وبالتالي ضمان عدم تمرير مرشح التحالف الجديد لرئاسة مجلس الوزراء. وهو ما يثبت أن الأزمة الحقيقية في العراق تكمن في النظام السياسي نفسه، وفي عجزه عن ضمان الالتزام بالدستور والقانون، وما أزمة عدم احترام التوقيتات الدستورية، سوى مظهر من مظاهر تلك الأزمة.
القدس العربي
يحيى الكبيسي