دولة الرسوم المتحركة

دولة الرسوم المتحركة

_65322_80

ما يجري في العراق اليوم يدخل في خانة الرسوم الكاريكاتيرية المثيرة وعالمها اللامنطقي واللاأصولي واللامعقول. وسواء بدأنا من أول سقوط العهد الملكي، أو من أيام العراق الديمقراطي الجديد فلن نتمكن من مشاهدة جميع حلقات المسلسل الطويل، لأنها من كثرتها لا تنتهي.

-1 في عام 1959 توجه “قطار السلام” من بغداد إلى الموصل حاملا دعاة “السلم العالمي” و”الديمقراطية” و”الاشتراكية” وهم حاملون حبالهم وسكاكينهم لذبح مدينة القوميين العرب المتمردة المعادية للسلم والديمقراطية والزعيم. وتعلمون ماذا جرى فيها في تلك الأيام الدامية. ثم يثور قائد موقع الموصل العقيد عبدالوهاب الشواف فتدك مواقعه العسكرية الحكومية طائرات الحكومة، وتقتله ومن معه، لأنه ارتكب الخيانة العظمى. وبالمقابل ما زال مؤيدوه ومحبوه إلى اليوم يحتفلون بيوم ثورته “الباسلة” ويسمونه “الشهيد”.

-2 في عام 1963 خرجت ثلاث طائرات من معسكر الحبانية لتدكّ وزارة الدفاع في بغداد، وبضع دبابات لتحتل مرسلات أبي غريب ومبنى الإذاعة في الصالحية، فيسقط الزعيم، ويعدم في استوديو الموسيقى في الإذاعة، بتهمة الخيانة العظمى أيضا، وبجريرة إعدام ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وخليل سلمان وعلي توفيق وعزيز أحمد شهاب. وفي كل عام يحتفل محبوه ويهتفون باسمه، ويسبّحون بشجاعته ووطنيته، إلى اليوم.

-3 وفي العام نفسه ينتفض الرئيس الذي نصبه البعثيون، عبدالسلام عارف، ومعه البعثيون العسكريون ضد البعثيين المدنيين، وضد “فوضوية” الحرس القومي، ليعود البعثيون أنفسهم بعد 15عاما ليسقطوا النظام العارفي بدبابة واحدة، لا غير، وبالتفاهم مع قائدين من أبناء قبيلة الرئيس كان قد عينهما لحمايته من المتآمرين.

-4 ومشهد سقوط النظام نفسه مشهد كاريكاتيري عجيب. فصدام حسين وصلاح عمر العلي وأربعة من القياديين البعثيين المدنيين يقتحمون القصر الجمهوري بدبابة وفرها لهم آمر الحرس الجمهوري إبراهيم الداوود وسعدون غيدان قائد كتيبة دبابات حماية القصر الجمهوري، وبموافقة مدير الاستخبارات العسكرية عبدالرزاق النايف، وهو أحد أقرباء الرئيس، فيحملون الرئيس المسالم البريء إلى معسكر الرشيد، ويوضع على متن طائرة عسكرية، ويطرد من البلاد.

-5 وفي أقل من شهر يغدر الرئيس الجديد أحمد حسن البكر ورفاقه البعثيون بحليفهم الأول الذي لولاه لكانوا جميعا (شهداء) مشنوقين بتهمة الخيانة العظمى، فيحيلونه على التقاعد من وظيفة وزير الدفاع التي لم يقضِ فيها سوى أسبوعين، ويلاحقونه في الأردن لاغتياله، فيهرب إلى السعودية، ويلوذ بصمته الطويل. ثم يغتالون حليفهم الثاني رئيس وزرائهم عبدالرزاق النايف في لندن، وتسجل الجريمة ضد مجهول.

-6 وفي الحلقة الكاريكاتيرية التالية نشاهد صدام حسين، في يوليو 1968 يقف وراء المهيب أحمد حسن البكر حاملا رشاشته لحراسة السيد الرئيس وهو يلقي خطابا في استوديو التلفزيون.

-7 في عام 1979 وإثر إعفاء (الأب القائد) حسن البكر من مسؤولياته، وفرض الإقامة الجبرية عليه، أصبح صدام حسين رئيسا للجمهورية العراقية، وأمينا عاما للحزب ورئيسا لمجلس قيادة الثورة، بحفلة إعدامات قاعة الخلد الشهيرة التي طالت ثلث أعضاء مجلس قيادة الثورة، وأكثر من 500 من الرفاق البعثيين، بتهمة خيانة الحزب والثورة.

-8 وبعدها بعام واحد تندلع الحرب الدامية بينه وبين الخميني الذي تسلم السلطات كلها في إيران. وهذا وحده مشهد كاريكاتيري مثير. فالخميني كان معارضا للشاه، ومقيما في العراق لاجئا سياسيا، يوم كان العداء على أشده بين عراق البعث وإيران الشاه. وحين تصالح صدام حسين والشاه في الجزائر عام 1975، وانتفى الغرض من وجود الخميني طردوه من العراق، ورماه رجال مخابرات صدام على الحدود مع الكويت التي رفضت دخوله. وبقي أياما دون مأوى، ثم فجأة تمتد إليه يد الأم “الحنون” فرنسا “الرؤوم”، وتحمله إلى باريس، ضيفا معززا مكرما، وتعينه الحكومة الفرنسية على طباعة أشرطة الكاسيت الثورية وتهربها له إلى داخل إيران، فيسط الشاه ويعود الإمام مظفرا إلى إيران عام 1978، ويصبح مالك السلطات كلها، ثم يتسلم صدام الرئاسة بعده بعام.

-9 ومن ينسى الحلقات الجديدة الكاريكاتيرية التي رافقت حرب الخميني وصدام؟ فالمعروف في تاريخ الثورات والمعارضات أن هناك معارضتين، معارضة الحاكم، وليس الوطن الذي يحكمه، ومعارضة الوطن وحكامه أجمعين. ولكن أحزابا عراقية ولدت وترعرعت في إيران، كانت تقاتل “وطنها” العراقي بحجة معارضة حاكمه الديكتاتور. وكان مسلحون تابعون لحزب الدعوة وفيلق بدر والمجلس الأعلى وحزب جلال الطالباني وحزب مسعود البرزاني يشاركون الجيوش الإيرانية في احتلال المدن والقرى العراقية، وقتل ضباط الجيش العراقي وجنوده، من أجل إقامة “عدل” الإمام الخميني بدل “ظلم” صدام حسين.

-10 ثم يأتي بعد ذلك مشهد الأيدي المتشابكة، الأميركية والإيرانية والسورية الأسدية، المتفانية في رعاية المعارضة العراقية، من أجل إسقاط النظام الديكتاتوري وإقامة النظام الديمقراطي الجديد.

-11 ثم يكون يوم دخول الدبابات الأميركية ساحة الفردوس يوم تتويج حزب الدعوة وفيلق بدر وأحمد الجلبي وأياد علوي ومسعود وجلال ملوكا لطوائف الوطن المنهوب، لتبدأ حلقات مثيرة من أفلام الرسوم المتحركة العراقية التي لا تنتهي.

-12 مسعود البرزاني “رئيسا” لإقليم كردستان، ولكنه لا يرى بغداد في العام الواحد مرة، ولا يريدها إلا لكي تدفع أجوره، ورسوم بقائه تحت “راية” الدولة الواحدة.

-13 وجلال الطالباني رئيسا للعراق، وهوشيار زيباري وزيرا للخارجية ثم وزيرا للمالية. وفؤاد معصوم رئيسا بعد أن أصبحت رئاسة العراق من حصة حزب جلال، ورئاسة كردستان حصة حزب مسعود، ورئاسة وزراء الدولة حصة حزب الدعوة وحده دون شريك.

-14 550 جنديا مدججا بالسلاح لحراسة وزير المالية أثناء زياراته الأسبوعية لوالدته في أربيل. فكم هي حراسة معصوم؟ ومسعود؟ والمالكي؟ والعبادي؟ والجبوري؟ الله أعلم.

-15 واحد جاهل، حاقد، متعصب طائفيا إلى أبعد الحدود، فاسد، متهور، اسمه نوري المالكي يصبح رئيس الرؤساء، ومدير المدراء، وسفير السفراء، وملك العراق المفدى. ويعجز القضاء والوزراء والمرجعية والشعب العراقي كله عن المساس بذيل عباءته المحمية بعصا قاسم سليماني. مشهد كاريكاتيري دمه ثقيل لا يحتمل.

-16 الدنيا كلها، محافظات الجنوب والفرات الأوسط، والمرجعية، وأميركا، وسنة إيران، وسنة الحكومة، وسنة السعودية، وسنة الأردن، وسنة قطر، وسنة تركيا، أجمعين، يريدون حسابه على مئات ملفات الظلم والفساد، ولا يقدرون.

-17 دولة يقودها هادي العامري وأبومهدي المهندس وواثق البطاط، وتصبح فيها الكلمة العليا لميليشياتهم، لا للحكومة ولا للبرلمان ولا لرئاسة الجمهورية ولا للمرجعية ولا للطائفة كلها التي أنتجتهم وندمت على إنتاجهم، ويعملون تحت قيادة قاسم سليماني، أليست فيلما كوميديا وتراجيديا من أفلام الرسوم المتحركة؟

-18 ودولة يعترف فيها على الملأ، وفي مقابلة تلفزيونية، قاتل بجريمته، ماذا تكون؟ واثق البطاط، الأمين العام لحزب الله العراق وقائد ميليشيا المختار، يعلن، متباهيا، أنه هو الذي قصف معسكر “ليبرتي” بـ80 صاروخ كاتيوشا، وهو الذي قتل وجرح من سكانه اللاجئين العزل العشرات، ولا تتحرك الدولة. لا رئيس جمهوريتها، ولا رئيس وزرائها، ولا وزير داخليتها، ولا برلمانها، ولا رئيس قضائها الأعلى، ولا مدعيها العام، وسوف تسجل الجريمة ضد مجهول، رغم اعتراف فاعلها، والاعتراف سيد الأدلة.

-19 ودولة كاريكاتير تلك التي لا تجد من يخلف نوري المالكي، من كل ملايين أبنائها العباقرة، خبرائها وفرسانها ومفكريها وعلمائها وشعرائها وفنانيها، سوى واحد ضعيف خواف متخرج في خيمة حزب الدعوة إياه، ويأبى، أو لا يحب، ولا يستطيع أن يفعل شيئا لتبييض وجه الحكومة والمرجعية ويحقق للجماهير المنتفضة حتى أقل القليل.

-20 وأي دولة تلك التي يصدر قضاؤها حكما قاطعا على وزير تجارة بجريمة الفساد والاختلاس وإساءة استخدام المال العام، ويأمر بحبسه، فيهرب تحت سمع شرطتها وقوات أمنها وميليشياتها؟

-21 وأي دولة “موحدة” ولها “علم” واحد و”نشيد وطني” واحد يهرب وزيرها المحكوم بالسرقة إلى مدينة أخرى من مدنها، من بغداد إلى أربيل، ولا تجرؤ، ولا تستطيع الحكومة استرجاعه منها؟

-22 دولة تعلن أن خزينتها خاوية، وهي تبيع نفطا بمئات المليارات، وتستدين من الدول “المحسنة” لتأكل وتشرب وتحمي وزراءها من الاغتيال، أليست دولة كاريكاتير؟

-23 وأخيرا. لأول مرة يتسامر العراقيون في صالونات منازلهم، ويعملون في مؤسساتهم ومدارسهم ومصارفهم ومستشفياتهم، وسيقانهم في مياه الأمطار والمجاري. ولأول مرة يحوّرون صناديق القمامة ويجعلونها زوارق يتزاورون بها في الليالي المقمرة، ويشيّعون موتاهم بالمجاديف، ولا يستقيل رئيس، ولا وزير، ولا نائب ولا خبير.

أليست هذه المشاهد العراقية الإعجازية المبتكرة الفريدة أغرب من كل ما أبدعه قبلنا خيال العظماء البارعين في صناعة أفلام الرسوم المتحركة وفنون الكاريكاتير؟

 إبراهيم الزبيدي

نقلا عن صحيفة العرب اللندنية