عندما انتشر على الإنترنت مقطع فيديو مروّع مدته ست دقائق لجنود أوكرانيين وهم يعذبون جنوداً روساً مكبلي الأيدي ويطلقون النار عليهم، قارن الناس على وسائل التواصل الاجتماعي وفي أماكن أخرى هذا السلوك الهمجي بسلوك “داعش”.
وفي اعتراف نادر بالمسؤولية الأخلاقية، سارع أوليكسي أريستوفيتش، مستشار الرئيس الأوكراني، إلى تذكير المقاتلين الأوكرانيين بمسؤوليتهم بموجب القانون الدولي. وقال: “أود أن أذكر جميع قواتنا العسكرية والمدنية والدفاعية، مرة أخرى، بأن إساءة معاملة الأسرى هي جريمة حرب لا عفو عنها بموجب القانون العسكري ولا تسقط بالتقادم”. ثم أكد: “نحن جيش أوروبي”، كما لو أن أوروبا مرادفة للسلوك الحضاري.
يكشف حتى هذا الادعاء المفترض للمسؤولية عن عنصرية خفية، كما لو أنه كان يوحي بأن غير الغربيين، وغير الأوروبيين، قد يرتكبون مثل هذا العنف الفظيع والجبان، ولكن بالتأكيد ليس الأوروبيين الأكثر تفوقاً، عقلانياً وإنسانياً وفكريًا.
ويذكّر هذا التعليق، ولو أنه أقل صراحة، بأحد التصريحات العنصرية لمراسل شبكة (سي بي إس) الأجنبي، تشارلي داجاتا، في 26 شباط (فبراير)، عندما قارن من دون خجل بين مدن الشرق الأوسط والعاصمة الأوكرانية، كييف، وقال: “على عكس العراق أو أفغانستان، (…) هذه مدينة أوروبية نسبيًا، متحضرة نسبيًا”.
كانت الحرب الروسية الأوكرانية كل الوقت مسرحاً للتعليقات والتصرفات العنصرية، بعضها واضح صريح، والبعض الآخر ضمني وغير مباشر. بعيدًا عن التلميح والمواربة، لم يكلف رئيس الوزراء البلغاري، كيريل بيتكوف، نفسه عناء تلطيف الكلمات عندما تناول، في شباط (فبراير) الماضي، قضية اللاجئين الأوكرانيين. وقال إن أوروبا يمكن أن تستفيد من اللاجئين الأوكرانيين لأن “هؤلاء الناس أوروبيون. (…) هؤلاء الناس أذكياء ومتعلمون. هذه ليست موجة اللاجئين التي اعتدنا عليها -أناس لم نكن متأكدين من هويتهم، أشخاص لديهم ماض غير واضح، والذين يمكن أن يكونوا حتى إرهابيين”.
كانت واحدة من العديد من الحلقات الكاشفة الأخرى التي تسلط الضوء على العنصرية الغربية، وإنما أيضاً على الإنكاء المستمر لواقعها القاتم أيضاً، مقابلة أجرتها صحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية، مع قائد كتيبة آزوف الأوكرانية، دميترو كوهارتشوك. وتُعرف ميليشياه بسياستها اليمينية المتطرفة وبعنصريتها الصريحة وأعمال العنف المروعة التي ترتكبها. ومع ذلك، وصفت الصحيفة كوهارتشوك بأنه “نوع المقاتل الذي لا تتوقعه. إنه يقرأ كانط ولا يستخدم البازوكا الخاصة به فقط”. إذا لم يكن هذا هو تعريف الإنكار، فما هو إذن؟
لكنّ على أصدقائنا الأوروبيين الفخورين أن يتوخوا الحذر قبل مساواة كلمة “أوروبي” بكلمة “حضارة” وباحترام حقوق الإنسان. يجب ألا ينسوا ماضيهم أو أن يعيدوا كتابة تاريخهم لأن العبودية القائمة على أساس العرق هي علامة تجارية أوروبية وغربية خالصة. كانت تجارة الرقيق، التي أدت إلى شحن ملايين العبيد من إفريقيا خلال أربعة قرون، أوروبية إلى حد كبير. ووفقًا لموسوعة فيرجينيا، فقد “مات 1.8 مليون شخص في الممر الأوسط لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي”. وهناك تقديرات أخرى تضع الرقم أعلى من ذلك بكثير.
كما أن الاستعمار سمة أوروبية أخرى أيضاً. ابتداء من القرن الخامس عشر، وعلى مدى قرون بعد ذلك، دمر الاستعمار جنوب الكرة الأرضية بأكمله. وعلى عكس تجارة الرقيق، استعبد الاستعمار شعوباً كاملة وقسم قارات بأكملها، مثل إفريقيا، بين مناطق النفوذ الأوروبية.
كانت دولة الكونغو مملوكة كلها فعليًا لشخص واحد، هو الملك البلجيكي ليوبولد الثاني. وخضعت الهند للسيطرة والاستعمار فعلياً من قبل شركة الهند الشرقية البريطانية، وفيما بعد من قبل الحكومة البريطانية. وتم تحديد مصير أميركا الجنوبية إلى حد كبير من خلال “عقيدة مونرو” التي فرضتها الولايات المتحدة في العام 1823. ولما يقرب من 200 عام، دفعت هذه القارة -وما تزال تدفع- ثمنًا باهظًا جداً للاستعمار الأميركي والاستعمار الجديد. ولا تستطيع أي إحصائيات أو أرقام أن تعبر عن حجم الدمار وعدد القتلى اللذين تسبب بهما الاستعمار الأوروبي الغربي لبقية العالم، ببساطة لأن الضحايا ما يزالون قيد التعداد. ولكن من أجل التوضيح، وفقًا للمؤرخ الأميركي، آدم هوتشيلد، فقد مات عشرة ملايين شخص في الكونغو وحدها من العام 1885 إلى العام 1908.
وكيف يمكن أن ننسى أن الحرب العالمية الأولى والثانية كانتا أوروبيتين بالكامل، وتركتا وراءهما حوالي 40 مليونا و75 مليون قتيل، على التوالي. (التقديرات الأخرى أعلى بكثير). لا يمكن مقارنة بشاعة هذه الحروب الأوروبية إلا بالفظائع التي ارتكبها الأوروبيون أيضًا في جميع أنحاء الجنوب العالمي لمئات السنين قبل ذلك.
بعد أشهر قليلة من تشكيل منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في العام 1949، سارع الشركاء الغربيون المتحمسون إلى استعراض عضلاتهم في كوريا في العام 1950، ما أثار حربًا استمرت لمدة ثلاثة أعوام، وأدت إلى مقتل ما يقرب من 5 ملايين شخص. وما تزال الحرب الكورية، مثل العديد من النزاعات الأخرى التي أثارها وحرض عليها الناتو، جرحًا لم يلتئم حتى يومنا هذا.
والقائمة تطول وتطول، من حروب الأفيون المشينة على الصين، التي بدأت في العام 1839، إلى القصف النووي لليابان في العام 1945، إلى تدمير فيتنام ولاوس وكمبوديا في الأعوام 1954 و1959 و1970 على التوالي، إلى التدخل السياسي والتدخلات العسكرية وحملات تغيير النظام في العديد من البلدان حول العالم. إنها جميعًا من عمل الغرب والولايات المتحدة و”شركائها الأوروبيين” الراغبين دائمًا، وكل ذلك يُرتكَب باسم نشر الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
لولا الأوروبيين، لكانت فلسطين قد نالت استقلالها منذ عقود، وما كان شعبها، بمن فيهم هذا الكاتب، ليصبحوا لاجئين أو يعانون تحت نير إسرائيل الصهيونية. ولولا الولايات المتحدة والأوروبيين، لكان العراق ما يزال دولة ذات سيادة، ولكان قد تم حفظ ملايين الأرواح في واحدة من أقدم حضارات العالم؛ وما كانت أفغانستان لتتحمل هذه المشقة التي لا توصف. وحتى عندما رضخت الولايات المتحدة وأصدقاؤها الأوروبيون أخيرًا وغادروا أفغانستان العام الماضي، فقد استمروا في احتجاز البلد كرهينة من خلال منع الإفراج عن أمواله، ما أدى إلى مجاعة فعلية بين سكان ذلك البلد الذي مزقته الحرب.
لذلك، قبل التباهي بفضائل أوروبا وإهانة أي أحد آخر، يجب على أمثال أريستوفيتش وداغاتا وبيتكوف إلقاء نظرة على أنفسهم في المرآة وإعادة النظر في رؤيتهم المتمركزة حول العرق والتي لا أساس لها من الصحة للعالم والتاريخ. في الواقع، إذا كان ثمة أحد يستحق حق التباهي فهو هذه الدول المستعمرَة التي قاومت الاستعمار، والعبيد الذين قاتلوا من أجل حريتهم، والدول المضطهدة التي قاومت طغاة أوروبا، على الرغم من الألم والمعاناة التي انطوت عليها مثل هذه النضالات.
مع ذلك، للأسف، بدل أن تستخدم أوروبا الحرب الروسية الأوكرانية كفرصة للتفكير في مستقبل المشروع الأوروبي، مهما يكن هذا المشروع، فإنها تستخدمها كفرصة لتسجيل نقاط رخيصة ضد ضحايا أوروبا في كل مكان. مرة أخرى، تبقى الدروس القيمة غير مستفادة.
الغد