الخروج من الجحيم

الخروج من الجحيم

3529a789f751413a47ef374223de3a83

قبل مغادرته واشنطن إلى فيينا لحضور المؤتمر الدولي لمعالجة الأزمة السورية، ذكر جون كيري وزير الخارجية الأميركية أن وضع خطة لمعالجة الأوضاع الخطيرة في سوريا، سيكون أشبه بوضع خطة للخروج من الجحيم. ولا أدري ماذا سوف يكون عليه الحال ساعة نشر هذا المقال، ولكن لا مفر من التأكيد على أن انعقاد الاجتماع في فيينا، سوف يكون علامة من العلامات التي يشير لها المؤرخون عندما يكتبون تاريخ ما جرى في سوريا في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين

مؤتمر فيينا هو اجتماع دولي تحضره الدول الإقليمية المتداخلة في الأزمة السورية، وفي مقدمتها السعودية وتركيا وإيران ومصر والعراق، والأطراف القائدة في النظام الدولي: روسيا والولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي. هذا الجمع سبق التحضير له من خلال اجتماع رباعي ضم كلا من الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وتركيا. هذه الدول الأربع تمثل قلب المؤتمر والراعية له، وهي على الأرجح التي وضعت الأبعاد الاستراتيجية الحاكمة لمفاوضاته. وربما السؤال الملح الآن هو لماذا الآن؟ لماذا يلتقي هذا الجمع الآن لوضع خطة للخروج من الجحيم، بينما كان هذا مستعرا على مدى السنوات الماضية حتى بلغ عدد الضحايا 250 ألفا، والجرحى بلغوا مليونا ومائة ألف، واللاجئون والنازحون بلغوا 11 مليون نسمة؟

العوامل التي يمكن أخذها في الاعتبار عدة: أولها أن اللاجئين توقف مسارهم عند الدول الحدودية مع سوريا في لبنان والأردن وتركيا، ثم انطلقوا في اتجاه الدول الأوروبية. وبشكل ما فإن الكابوس الأوروبي الدائم عن اجتياح دول الجنوب الفقيرة وذات الثقافات المختلفة للقارة الأوروبية قد بات حقيقة قادمة من سوريا وليبيا وما وراءهما في القارتين الأفريقية والآسيوية. ولم يكن هناك كثيرون في أوروبا على استعداد لاستقبال أعداد هائلة من اللاجئين، بينما القارة تحاول الخروج من أزماتها الداخلية التي جسدتها الأزمة الاقتصادية والمالية اليونانية. وثانيها أن الاتفاق النووي الغربي الإيراني قد طرح فرضية مهمة تحتاج لاختبار. فهل كانت الصفقة لمنع إيران من إنتاج السلاح النووي حاليا مع إطلاق يدها في الإقليم لكي تسيطر على العراق وسوريا ولبنان، وتشكل شوكة في خاصرة الإقليم كله ممتدة حتى اليمن؟ أم أن الاتفاق هو نووي خالص يعطي إيران الفرصة لكي يكون لها دور إقليمي معتدل، وباختصار تكون إيران جزءا من حل المشاكل الإقليمية، وليس أنها هي كل هذه المشاكل مجتمعة؟ وثالثها أن التدخل الروسي المسلح المباشر المفاجئ في سوريا قد غيّر كثيرا من لعبة الشطرنج الشرق أوسطية؛ فلم يحدث أن حققت روسيا مثل هذا الحضور منذ وجودها العسكري في مصر قبل قيام الرئيس السادات بطردها عام 1672. ويأتي هذا التدخل الروسي في لحظات بدا فيها أن استراتيجية أوباما لعدم التدخل المباشر قد خلقت وحشا إرهابيا يهدد ليس الشرق الأوسط وحده، وإنما يهدد بالامتداد حتى القوقاز وأوروبا. ورابعها أن التكلفة المادية والمعنوية للأزمة السورية أصبحت بالغة على المتداخلين فيها، خاصة أنها ليست الأزمة الوحيدة في الإقليم، وإن كانت أشدها قسوة

هناك بالتأكيد عوامل أخرى يمكن إضافتها، ولكن الثابت أن الموضوع الإنساني الخاص باللاجئين احتك مع الثورة الإعلامية العالمية التي جعلت للصوت والصورة تأثيرات سياسية واستراتيجية لا يمكن تجاهلها. والثابت أيضا أن أمرا جديدا قد قام على أكتاف الاتفاق النووي الإيراني الغربي يتعلق بحقيقة النوايا الإيرانية. والثابت ثالثا أن موسكو اتجهت إليها الأطراف الإقليمية إن لم يكن للتنسيق العسكري، كما فعلت إسرائيل والأردن، فإنه للبحث عن مخرج من الأزمة التي طالت كثيرا. كل هذه «الثوابت» الجديدة خلقت إطارا أو بيئة جديدة للعمل عندما بات هناك توافق على الأولويات التي تجعل القضاء على «داعش» ودولته الهدف الأول للتحالف الدولي والإقليمي، الذي يباشر العمليات العسكرية ضد دولة «الخلافة» المزعومة أو ضد بعض من فروعها، كما هو الحال مع مصر. وحدة الهدف هذه، وهي كحد أدنى، تؤدي إلى تنسيق أكثر إحكاما، وربما استراتيجية أشمل للتعامل مع التنظيم الإرهابي وفروعه ليس في سوريا وحدها، وإنما الإقليم كله. مثل ذلك ربما يكون غاية طموحة قد تخذلها التناقضات العميقة بين أطراف اجتماع فيينا، ولكن هناك غايات أقل طموحا للتعامل الإنساني مع الأزمة، سواء بإقامة مناطق عازلة وحمايتها، أو تسهيل عمليات الإغاثة والإنقاذ. هذه الغايات لا توجد تناقضات حولها طالما لم تعط مزايا سياسية لأي من الأطراف الداخلية في الأزمة السورية على حساب الأطراف الأخرى. هناك هدف آخر ربما لن يذكره أحد على الأقل خلال هذه المرحلة، وهو أنه لن يكون متاحا إخراج روسيا عسكريا من الشام ما لم توضع نهاية للأزمة السورية، هكذا تقول موسكو، وهكذا تريد الأطراف الأخرى

الفجوة الكبيرة بين الأطراف الرئيسية توجد في الدور الذي يلعبه النظام السوري البعثي خلال المرحلة الانتقالية المتصورة، التي توجد فيها إدارة مؤقتة للبلاد تقود إلى وضع وثيقة، أو دستور، يرسم المستقبل، ثم انتخابات جديدة لممثلي الشعب والرئاسة. الخلاف الذي جرى من قبل وأدى إلى وصول الأزمة إلى ما وصلت إليه أن روسيا وإيران تريدان أن تكون يد بشار الأسد الثقيلة حاضرة وبقوة خلال هذه المرحلة، ولكن المعنى الوحيد لذلك هو أنها لن تكون انتقالية، وإنما بقاء الأمور على ما كانت في السابق. وعلى خلاف ذلك فإن تركيا والولايات المتحدة كانت مصرة على استبعاد بشار ونظامه، لأنه يستحيل أن يكون من كان طرفا في قتل ربع مليون سوري مشاركا في الحل. هذه الفجوة ضاقت بعض الشيء حينما أبدت موسكو استعدادها لوجود صيغة وسط تسمح لبشار بالتواجد، ولكن من دون دور مهيمن على عملية انتقال السلطة. هناك تفاصيل كثيرة في هذا الموضوع، وكلها تحتاج لقدر كبير من المهارة السياسية والدبلوماسية. وفي كل الأحوال فإن هذه النوعية من مفاوضات فيينا تختبر فيها النوايا، وتظهر فيها المصداقية، ومن الجائز، بل ومن المفيد، أن تبدأ الأطراف المختلفة بما هو متفق عليه، وساعتها فإن خلاص كل الأطراف من خطر «داعش» سوف يضعها في وضع مختلف عن الوضع الحالي. وربما كان في الأمر فرصة لإيران لكي تثبت أنها تستطيع أن تكون لاعبا إيجابيا في منطقة غرقت في الكثير من الدماء بسبب نزعات إمبراطورية لم يعد هناك ما يؤيدها

المتفائلون سوف ينظرون إلى مؤتمر فيينا على أنه سوف يكون البداية ليس فقط لتسوية الأزمة السورية، وإنما ربما لتسوية كل أزمات المنطقة بما فيها حتى الصراع العربي – الإسرائيلي. أما المتشائمون فسوف يرون في الاجتماع النقطة التي بعدها يلقي كافة الأطراف قفازاتهم، استعدادا لجولة أخرى من الصراع يدفع أهل المنطقة ثمنها. ومن الجائز عند نشر هذا المقال سوف يكون القارئ على معرفة إلى أين سيتجه الشرق الأوسط خلال السنوات المقبلة؟!

د. عبد المنعم سعيد

*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط