مفاجآت الانتخابات التركية فرضت نفسها على الجميع بحيث أثارت سيلا من التساؤلات حول البعض وقدرا لا يستهان به من الإحراج لدى البعض الآخر.
(١)
الذى لا يقل أهمية عن فوز حزب الحرية والعدالة فى تركيا بالأغلبية التى مكنته من الانفراد بتشكيل الحكومة. إن نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع جاءت مدهشة وعميقة الدلالة. ذلك أنها تجاوزت ٨٥٪، الأمر الذى يعكس مدى حيوية العملية السياسية، وهو ما يسوغ لنا أن نقول إنه إذا جاءت النتيجة معززة لمكانة وقوة الحزب الذى يحكم تركيا منذ ١٣ عاما، فإنها أيضا تطمئننا إلى قوة الحضور الذى يمثله المجتمع. صحيح أن النتيجة أبرزت عمق الانقسام فى المجتمع التركى، لكن ذلك لا غضاضة فيه طالما اتفق الجميع على إدارة خلافاتهم بالوسائل الديمقراطية ومن خلال الاحتكام إلى صناديق الانتخابات.
لقد شارك فى الانتخابات ١٦ حزبا من الناحية الرقمية والقانونية. لكن الصراع الحقيقى كان بين أربع قبائل سياسية الخلاف بينها على أشده. الأول حزب العدالة والتنمية المحافظ وأغلب قواعده تنتمى إلى الهوية الإسلامية. وقد حصل على ٤٩.٥٪ من مقاعد البرلمان فى حين كانت حصته ٤١٪ فقط فى انتخابات شهر يونيو الماضى. الثانى حزب الشعب الجمهورى الذى يضم خليطا من العلمانيين واليساريين والليبراليين، وقد كان الحزب الوحيد فى السلطة طوال ٢٧ عاما (من عام ٢٣ إلى ١٩٥٠) ظل خلالها متحالفا مع العسكر، وقد حافظ على نسبة تمثيله التى ظلت فى حدود ٢٥٪. الحزب الثالث يمينى يمثل الحركة القومية ويدعو إلى وحدة الشعوب التركية الممتدة إلى حدود الصين، وكان أكبر الخاسرين لأن حصته تراجعت من ١٦.٥ إلى ١٢٪. الحزب الرابع (الشعوب الديمقراطى) يعتمد على القواعد الكردية، وقد تراجعت نسبة التصويت له أيضا بحيث وصلت إلى ١٠.٥٪ فى حيت تجاوزت تلك النسبة ١٣٪ بقليل فى انتخابات يونيو الماضى.
الأرقام واضحة فى ثبات موقف حزب الشعب الجمهورى الذى أسسه كمال أتاتورك، بسبب انتشار قواعده العلمانية واليسارية فى المناطق الساحلية التى يغلب عليها الطابع الغربى. أما الحزبان الثالث والرابع فمن الواضح أن التصويت لهما كان عقابيا. ذلك أن الحزب القومى رفض المشاركة فى الحكومة الائتلافية، وراهن على إفشال مشروعها بأمل أن يشارك فى حكومة الأقلية. وكان لذلك صداه السلبى فى أوساط الرأى العام، كما أن حزب الشعوب الديمقراطى ضعف موقفه بسبب الانشقاقات فيه، وبسبب خلافه مع حزب العمال الكردستانى الذى يقوده عبدالله أوجلان. كما أن حوادث العنف التى وقعت فى البلاد واتهم بعض متطرفى الأكراد بالضلوع فيها، سحبت من رصيد شعبيته.
(٢)
حين كان رؤساء أحزاب المعارضة يكيلون الاتهامات لحزب العدالة والتنمية، وينددون بممارسات وسياسات الرئيس رجب طيب أردوغان، فإن قيادة حزب العدالة لجأت إلى مخابطة الناخبين الأتراك بلغة أخرى. إذ لم يكتفوا بالحديث عن المشروعات العملاقة التى تتعلق بتطلعات «تركيا الجديدة» فى عام ٢٠٢٣ (ذكرى مرور مائة سنة على تأسيسه الجمهورى) أو مشروع مطار استانبول الجديد الذى سيكون ثالث مطار فى العالم فى ضخامته وجاهزيته، ولكنهم اقتربوا كثيرا من هموم الناس وأمورهم الحياتية. فقد تحدث رئيس الحزب فى جولاته عن صرف رواتب لكل خريجى الجامعات (٨٠٠ ليرة للفرد أى نحو ٣٠٠ دولار) إلى أن يجد كل واحد منهم عملا. ومن يريد أن يبدأ مشروعا خاصا تدعمه الحكومة بمبلغ ٥٠ ألف ليرة هبة تشجيعية إضافة إلى قرض يعادل ١٠٠ ألف ليرة. وفى حالة ما إذا عين القطاع الخاص خريجا جامعيا فإن الدولة تتحمل راتبه طوال السنة الأولى لتعيينه. وفى إطار برنامج الدعم الأسرى أن الحكومة ستساهم بنسبة ١٥٪ من تكاليف زواج أى شخص وتأثيث بيته. وإذا أنجبت أى زوجة تركية مقيمة داخل البلاد أو فى أى مكان بالعالم فإنها ستكافأ بمبلغ ٣٠٠ ليرة للطفل الأول أو نصف قطعة ذهبية. وسترتفع المكافأة إلى ٤٠٠ ليرة لإنجاب الطفل الثانى و٦٠٠ ليرة أو قطعة ذهبية كاملة للمولود الثالث. وفى حالة الأم العاملة، فإنها إذا انجبت فلها بعد الوضع أن تعمل نصف الوقت لمدة شهرين، تتقاضى خلالهما راتبها كاملا، وهذه المدة تصل إلى أربعة أشهر فى حالة المولود الثانى وإلى ستة أشهر فى حالة المولود الثالث، حيث تظل تتقاضى راتبها كاملا فى حين تعمل نصف الوقت فقط.
هذا التوجه فى خطاب الحزب غاب عن الحملة الانتخابية فى المرة السابقة (انتخابات ٨ يونيو التى فقد فيها حزب العدالة والتنمية أغلبيته المطلقة فى البرلمان). ولا يشك أحد فى أنه كان بين العوامل الجاذبة التى شجعت البعض على التصويت لصالحه، خصوصا فى أوساط الشباب، إلا أن هناك عوامل أخرى أسهمت فى صنع الانتصار الكبير الذى حققه الحزب.
(٣)
سيظل تحليل الأسباب التى أدت إلى فوز حزب العدالة والتنمية بتلك النسبة العالية موضوعا مفتوحا للمناقشة خلال الفترة المقبلة، وإلى أن تتبلور الصورة بشكل كاف فإننى أسجل فى هذا الصدد النقاط التالية:
< فلا أحد أن يتجاهل حقيقة أن الحزب المحافظ الذى تشكل فى عام ٢٠٠٠ يعبر عن الهوية الأصيلة للشعب التركى. الأمر الذى وفر له قاعدة واسعة وصلبة من التأييد. فى مقابل ذلك فإن الأحزاب المنافسة الأخرى ــ العلمانية واليسارية والليبرالية ــ ظلت تعبر عن تيارات وافدة، أو عصبيات عرقية أو أيديولوجية (الأكراد والعلويين مثلا). وهذا التباين بدا أكثر وضوحا فى التصويت، ذلك أن حزب العدالة حصد مقاعد ضعف أقوى الأحزاب المنافسة (٥٠٪ ماقبل ٢٥٪ لحزب الشعب الجمهورى).
< الانجاز والاستقرار الذى تحقق خلال الثلاثة عشر عاما الأخيرة كان رصيدا جيدا عزز من مكانة حزب العدالة والتنمية، وإذا قارنت ذلك بحقيقة أن عمر الحكومات الائتلافية فى المرحلة التى سبقت عام ٢٠٠٢ (حين تسلم الحزب السلطة) كان يتراوح بين سنة وسنة ونصف، فإن ذلك يعد حافزا قويا للناخب التركى كى يصوت لصالح الحزب الذى أثبت أن استمراره فى صالحه.
< حين أدرك قادة حزب العدالة ان شعبيته تراجعت بصورة نسبية فى انتخابات يونيو الماضى فإنهم لم يطوروا خطابهم فحسب، ولكنهم أيضا أعادوا النظر فى قوائم المرشحين، بحيث قدموا أشخاصا أكثر قبولا فى دوائرهم (الأكراد مثلا).
< خلال الأشهر الخمسة التى أعقبت انتخابات شهر يونيو الماضى، أدرك الأتراك أن أحزاب المعارضة غير جادة فى تحمل المسئولية، بدليل امتناعها عن الائتلاف مع حزب العدالة وتغليبها حساباتها ومصالحها الخاصة على مصلحة المجتمع. عزز من ذلك وزاد من قلق الناس ظهور بوادر الفوضى فى البلاد متمثلة فى عودة أنشطة الجماعات الإرهابية والتفجيرات التى راح ضحيتها أكثر من ١٢٠ مواطنا، إضافة إلى عودة حزب العمال الكردستانى إلى إشهار السلاح ضد السلطة. وهى خلفية دفعت كثيرين إلى التضامن مع السلطة التى حفظت الاستقرار فى البلاد خلال العقد الأخير.
< لم يكن الأمر مقصورا على القلق الأمنى والسياسى لأن الركود الاقتصادى الذى خيم على البلاد خلال تلك الفترة كان عاملا آخر أسهم فى تعزيز موقف حزب العدالة والتنمية الذى قاد حركة النهوض والتقدم الاقتصادى خلال السنوات العشر السابقة. ومن المؤشرات ذات الدلالة فى هذا الصدد أن قيمة الليرة التركية زادت بنسبة ١.٥٪ مباشرة فور ظهور النتائج الأولية التى دلت على فوز حزب العدالة.
< ثمة اعتبار أخير سبق أن أشرت إليه يتمثل فى أن الذاكرة الجمعية فى تركيا مسكونة بمشاعر سلبية إزاء الحكومات الائتلافية التى كانت دائما قصيرة العمر، فضلا عن أنها كانت أحد مصادر عدم الاستقرار فى البلاد، الأمر الذى تذرع به العسكر للقيام بأربعة انقلابات أيدها غلاة القوميين والعلمانيين.
(٤)
عقب انتهاء فرز الأصوات ــ فى الساعة الواحدة صباح أمس ــ وقف الدكتور أحمد داود أوغلو فى شرفة الحزب بأنقرة وألقى خطبة مطولة أمام الحشود التى قصدت المكان معلنا مد أيدى الحزب للتعاون مع الجميع فى المرحلة المقبلة (فهم أنه يقصد معركة تعديل الدستور). فى ذات الوقت كانت الجماهير قد احتشدت أمام مقر الرئيس رجب طيب أردوغان، مرددة الأهازيج والهتافات، لم يتحدث الرجل إلى الحشود لكنه ذهب لأداء صلاة الفجر فى مسجد الصحابى أبوأيوب الأنصارى، وهو أول مسجد بناه العثمانيون فى استانبول بعد فتح القسطنطينية (عام ١٤٥٣) وكان الصحابى أبوأيوب الذى شهد غزوة بدر، ضمن جيش الخليفة يزيد بن معاوية الذى قدم يفتح المدينة، وقتل على أسوارها. كانت تلك هى المرة الأولى التى يتوجه فيها رئيس الجمهورية لأداء صلاة الفجر فى مسجد أبوأيوب بعد إعلان نتائج الانتخابات. ورغم أنه لم يتكلم فى المناسبة إلا أن رسالته كانت بليغة وواضحة.
مع طلوع الشمس بعد ذلك كان السؤال ما هى خطوات حزب العدالة والتنمية المقبلة؟ ألقيت السؤال على من أعرف من العارفين بالسياسة التركية، فكانت الردود كما يلى:
< لا تغيير جوهريا فى السياسة الداخلية أو الخارجية، إلا أن حكومة تسيير الأعمال التى تريثت فى التعامل مع قضايا الأكراد والإرهاب والشأن السورى، آن لها بعد تشكيلها أن تتبنى استراتيجية جديدة للتعامل بحزم مع تلك الملفات.
< قضية تعديل الدستور ستعود إلى الطاولة، خصوصا أن الأغلبية التى حصل عليها حزب العدالة لا تمكنه وحده من إجراء التعديل ذلك أنه حصل على ٣١٧ من بين ٥٥٠ مقعدا للمجلس. وحسب الدستور فإن الأغلبية تحتاج إلى ٣٦٧ نائبا لتعديل الدستور، أو ٣٣٠ نائبا لطرحه للاستفتاء. فى حين أنها لا تحتاج لأكثر من ٢٨٦ نائبا للانفراد بتشكيل الحكومة. لذلك فإن اتجاه الحكومة إلى تعديل الدستور سيظل مهمة شاقة للغاية لأنها ستكون بحاجة إلى أصوات الأحزاب الأخرى.
< سيعمد حزب العدالة والتنمية إلى لملمة صفوفه وعلاج التشققات التى ظهرت فيه قبل الانتخابات، وأدت إلى ابتعاد بعض قياداته أبرزهم عبدالله جول رئيس الجمهورية السابق. ولاشك أن الانتصار الذى تحقق سيكون عنصرا مساعدا فى إنجاح ذلك التماسك. بالمقابل فإن أحزاب المعارضة التى منيت بالهزيمة مرشحة للانفراط والتفكك. وقد ظهرت بوادر ذلك الانشقاق فى حزبى الحركة القومية والشعوب الديمقراطى. الأمر الذى من شأنه أن يؤدى إلى تراجع رصيدها وإضعاف دورها فى البرلمان الجديد.
< لأن فترة البرلمان الحالية أربع سنوات، فليس مستبعدا أن تتجدد محاولات أنقرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، خصوصا أن ثمة قرائن موحية بذلك. كان منها الزيارة التى قامت بها المستشارة الألمانية انجيلا ميركل والتقاؤها مع أردوغان فى ذروة المعركة الانتخابية. إضافة إلى إشارات التشجيع التى ظهرت من بعض الدول الأوروبية الأخرى.
إذا أخرجنا السياسة من الموضوع فإن تجليات الحالة الديمقراطية هناك تطمئننا وتستحق منا التقدير والإعجاب. بقدر ما انها تثير الدنيا مشاعر الحياة والحرج. ذلك أننا طالما سمعنا تخويفا للمصريين من مصير ليبيا وسوريا. ولأسباب لا تخفى دلالتها يتم إغفال تركيا.
فهمي هويدي
صحيفة الشروق المصرية