كُتب الكثير حول التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، وقُدم العديد من التحليلات والاستنتاجات التي استندت إلى جملة من النظريات المتباينة. منها ما انطلق من فكرة التوافق بين الروس والأميركيين على «حلٍّ» ما، ومنها ما اعتمد فكرة التعارض بينهم، فيما تحدث آخرون عن بداية التفارق الروسي – الإيراني، وحاول بعض من مؤيدي النظام وأتباعه الترويج لفكرة وجود استراتيجية روسية – إيرانية متكاملة ستتجسّد مآلاتها في القضاء النهائي على القوة العسكرية للمعارضة السورية تحت شعار مكافحة الإرهاب، هذا الشعار الممجوج الذي بات وسيلة لتسويغ وتمرير المشاريع التي لا يستطيع أصحابها التحدث عنها علناً، لأنها في الأحوال العادية عصيّة على أي تسويغ.
لكن حتى الآن، وبعد مرور أسابيع عدة على بداية الغارات الروسية المطعّمة بالصواريخ الباليستية، وهي مدة لا يستهان بها وفق المقاييس والحسابات العسكرية، لا يبدو أن تغييراً نوعياً في الموازين قد حدث على الأرض. على النقيض من ذلك، تمكنت فصائل المعارضة الميدانية من امتصاص الصدمة، والتكيّف معها، كما حققت الفصائل المعنية الكثير من الإنجازات، بخاصة في ميدان تدمير دبابات النظام وآلياته وإلحاق خسائر جسيمة بالقوات المهاجمة على الأرض، سواء تلك الإيرانية، أم تلك التي تخصّ حزب الله والمجموعات الأخرى التي استقدمتها إيران من مختلف الأنحاء والأصقاع، في إطار ما تسوّقه كحرب «مقدّسة» لحماية الأماكن المقدّسة. وهكذا تقاطع «المقدّس» الإيراني مع «المقدّس» الأرثوذكسي الروسي في مواجهة افتراضية مع «المقدّس» الداعشي.
أما على الصعيد الواقعي، فما يجري لا يخرج عن نطاق جهود حثيثة يبذلها كل طرف لتحقيق مصالحه على حساب الشعب السوري، ومن دون أي اعتبار للتدمير الذي تتعرض لها سورية على صعيد الشعب والنسيج الوطني المجتمعي والبنية التحتية والكوادر والمؤسسات.
لكن الأمر اللافت أن التدخل الروسي كان في مثابة الخطوة التي حركت المواقف الإقليمية والدولية في خصوص سورية، وذلك بعد فترة ركود نسبية استمر خلالها التطاحن بين مختلف القوى في الداخل السوري، وتفاقمت أزمة اللاجئين وباتت تشكّل هاجساً كبيراً بالنسبة إلى دول أوروبا الغربية، وذلك من جهة تكاليف الاستيعاب، وردود الأفعال المجتمعية الآنية، وتبعاتها المستقبلية. وقد أوحى الترقّب الأميركي الواضح، كما أوحت ردود الأفعال المدروسة من جانب السعودية وتركيا على وجه التحديد، بوجود نَفَسٍ جاد للبت في إمكان الوصول إلى حل سياسي لمعالجة الجرح السوري المفتوح، وهو الذي بات يؤثر فعلاً في الجوار الإقليمي، وستمتد نتائجه إلى المحيط الدولي – الأوروبي الأقرب، إن لم نقل إنها امتدت فعلياً.
وقد جاء اجتماع فيينا في 23 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي ليجسّد النَفَس المشار إليه، ويعلن انطلاقة المحادثات الدولية – الإقليمية للتوصل إلى حلٍّ يكون في مثابة تقاطع مصلحي بين الجميع. ويبدو أن التوافق الأولي على الخطوط العامة قد حصل، ومنها الحفاظ على وحدة سورية، وهوية الدولة، وتغيير الحكم. وهي خطوط تلتقي في إطارها العام مع توجهات الشعب السوري بمختلف مكوّناته. لكن العقدة ستكون في التفصيلات، وعملية إخراج المتفق عليه، وترجمته واقعاً على الأرض.
السوريون بكل مكوّناتهم، يريدون الحفاظ على وحدة بلدهم، لأنها الضمانة الأفضل لهم ضمن الظروف والمعطيات الحالية، وذلك بعد عقود من العيش المشترك والتفاعل. لكن التجربة أثبتت أن هذه الوحدة لا يمكنها أن تتعايش مع الاستبداد والإفساد، ومع النزعات المذهبية – الطائفية اللاعقلانية، أو القوموية العنصرية الانعزالية. ولذلك لا بد من دولة محايدة أيديولوجياً ودينياً وقومياً يحترم دستورها جميع الخصوصيات، ويعترف بحقوق سائر الجماعات التي يتشكل منها الشعب السوري، والتي من أجل شبابها وأجيالها المقبلة كانت الثورة.
فظاهرة «داعش»، الأقرب إلى الشركة المخابراتية المساهمة، لا تنسجم مع طبيعة المجتمع السوري، وتتناقض مع التوجه التقليدي للاعتدال السني السوري. كما أن ظاهرة ولاية الفقيه، و «حزب» الله و»جنوده» تدفع بالسوريين، بخاصة العلويين منهم، نحو حالة اغتراب لم ولن ينسجموا معها أبداً.
كما أن التوجهات العقائدية القوموية بمختلف أسمائها وتفرعاتها، العربية منها والكردية وغيرها، شكّلت على الدوام، وما زالت، عائقاً أمام تفاعل السوريين ووحدتهم الوطنية، ومهدت الطريق باستمرار أمام الشكوك والهواجس المتبادلة.
ما ينقذ سورية، ويطمئن كل مكوناتها، جماعات وأفراداً، هو المشروع الوطني لكل السوريين ومن أجلهم كلهم على قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق. ومشروع كهذا سيكون في المنظور البعيد لمصلحة دول الإقليم ومجتمعاته، لأنه سيساهم في ترسيخ معالم الأمن والاستقرار في المنطقة، وسيفتح الآفاق واسعةً أمام المشاريع التنموية القادرة على استيعاب الطاقات الشبابية، وتوظيفها في خدمة التطوير المجتمعي المتوازن، ما يشكّل ضمانة أكيدة للمصادرة على النزعات المتطرفة، وتجسّداتها وتحوّلاتها الإرهابية.
ويبقى موضوع تغيير الحكم المفتاح لبلوغ المذكورين. فالحكم الحالي هو الذي أوصل البلاد والعباد إلى الوضع الكارثي الشمولي الراهن، ومن دون تغيير جذري نوعي فيه ستظل دوّامة العنف، وستستمر المأساة، وسيتواصل تدفق السوريين نحو المهاجر، كما سيتوالى توافد جنود مقاتلي المشاريع «المقدسة» إلى سورية ليعيثوا فيها فساداً وتدنيساً.
ويبدو أن المجتمعين في فيينا لم يتوافقوا بعد حول التفصيلات الخاصة بالتوجهات الأساسية الثلاثة: وحدة سورية، هوية الدولة، وتغيير الحكم. ولهذا كان الاتفاق على استمرار اللقاءات، وتوسيع دائرتها، لتشمل المزيد من القوى الإقليمية والدولية. وهذا أمر يستشف منه ظهور صيغة ما من التوافق الأميركي – الروسي، وهو توافق أثبتت التجربة المريرة لأكثر من أربعة أعوام، أنه يبقى الأساس والمدخل لأي حل ممكن يراعي مختلف التوازنات.
لكن الطريف والأليم في الوقت ذاته، أن الكل يزعم حرصه على مصلحة السوريين، ويعلن احترامه قرارهم، لكن مع ذلك يبقى السوري في المعارضة والموالاة آخر من يعلم بخبايا الطبخة وماهيتها.
أما الأمر الأهم الذي ينبغي أن يعلمه الجميع، فهو أن أي حل مقترح أو مفروض لا يرتقي إلى مستوى تضحيات السوريين وتطلعاتهم، سيبقى مجرّد إجراء طارئ وقتي، ولن يساهم في معالجة الجرح السوري النازف، بل سيزيده نزفاً وتأثيراً، ويجعل علاجه أكثر صعوبة وتعقيداً.
عبدالباسط سيدا
صحيفة الحياة اللندنية