أثار الغزو الروسي لأوكرانيا اهتماماً مضاعفاً في أوساط عدّة أوسع من نطاق الخبراء والمتخصصين بالشأن الروسي لقراءة العقل السياسي للرئيس فلاديمير بوتين في محاولة لتفسير قراراته وتوقع توجهاته، لا سيّما فيما يتعلّق بالمواجهة العسكرية الأخيرة التي تتجه يوماً بعد يوم إلى مزيد من التصعيد، وقد تقود في ظروف ما إلى صراع أوسع من شرقي أوروبا.
والحقيقة، أن اختلاط الدّعاية السياسيّة بالحاجة العمليّة إلى تفكيك النّسق الفكري الذي يدور في رأس الزّعيم الروسي والتنبؤ بالخطوات التالية لرجل يحكم واحدة من دول العالم العظمى بقبضة حديدية منذ مطلع القرن الواحد والعشرين أنتج سلسلة من التخرصات الأقرب إلى التفكير الرغائبيّ، والتصورات المسطحة منها إلى التحليل المبني على معرفة ورصد لتطوّر مساره الفكري في إطار الصورة الأعم لروسيا ما بعد الاتحاد السوفياتيّ.
ومما يتم تداوله اليوم مثلاً وصف الزّعيم الروسي بأنّه «فاشيّ». وبالطّبع، فإن شيوع مثل هذا التوصيف يعكس تعزز الفكرة التبسيطيّة عن العالم بأنّه منقسم بين الخير والشرّ، أو الأبيض والأسود. ولعل مصدر هذه الرؤية القاصرة هو ذلك التعاطف العلني الذي أظهره الرئيس بوتين مرّات عدة تجاه أفكار الفيلسوف الروسي المهاجر إيفان إيلين – اشتهر بين الحربين العالميين في النصف الأوّل من القرن العشرين – . وبما أن إيلين كان محسوباً على الفاشيّة (المسيحيّة)، فإنّ بوتين بالتالي فاشي أيضاً. ويحاول معلقون غربيّون كذلك الدّفع تجاه الرّبط بين الرئيس الروسي والمفكّر السياسي المعاصر ألكسندر دوجين، الذي يُوصف بدوره بالقومي الفاشيّ، وأنّه يقود عبر سلسلة من الكتب والمقالات يدعمها «ظهور مكثّف على شاشات التلفزيونات الروسيّة» ومواقع التواصل الاجتماعي مهمّة تعميم الآيديولوجيا الفاشيّة المسيحيّة – الأرثوذكسية في إطار تيار فكري يُسمى الأوراسيّة” – الفكرة الأساسية للأوراسية هي أن «روسيا ليست فقط (الغرب)»، ولكن أيضاً «الشرق»، وليست فقط «أوروبا»، ولكن أيضاً «آسيا»؛ ولذلك فإن روسيا وفق أحد مؤسسي تلك الحركة، بيوتر سافيتسكي، الذي كان يكتب في العقد الثالث من القرن العشرين، ليست أوروبيّة على الإطلاق، ولكن «أوراسيّة».
والواقع أن دوجين لا يظهر «بانتظام على شاشات التلفزيون الروسية». وهو وإن كان شخصية جدليّة في فضاء التنظير السياسيّ، لكنّه يبقى هامشياً في المشهد الكليّ، وتقطعت اتصالاته مع نواة النّظام الروسي منذ فترة طويلة. ولا ينكر دوجين ذلك أبداً ويعترف بأنّه غير مؤثّر على توجهات النظام في موسكو، فيقول «ليس لدي أي تأثير. لا أعرف أحداً – داخل النظام -، وأنا فقط أنشر كتبي كأي مفكر روسي، لا أكثر». ولذلك؛ فإن الفكرة التي لطالما تداولها بين المحللين في الغرب بأن دوجين هو العقل المفكّر وراء بوتين تبدو مفتقرة للدّقة. كما أن الحديث عن الأوراسية مضلل بالقدر نفسه. حتى أنّ بوتين أشار (في خطاب له من أكتوبر/تشرين الأول 2017) إلى أنه في حين تظلّ روسيا أوراسية جغرافياً، «لكن فيما يتعلق بالثقافة، فإن هذه مساحة أوروبية أساساً يسكنها أشخاص ذوو ثقافة أوروبيّة». ومع أنّ الرئيس الروسي اقتبس في مناسبات أقوالاً عدّة من المفكر الأوراسي ليف غوميليوف، لكن ذلك كان دائماً في سياق التأكيد على طبيعة روسيا المتعددة الأعراق، ودون ما قد يوحي بتبنيه صيغة الفكر الأوراسي بشكل عام.
ويبدو أن المصدر الأساس للرّبط بين بوتين والفاشيّة كتاب للمؤرخ الأميركي تيموثي سنايدر عن روسيا عنوانه «الطريق نحو اللاحريّة – 2018*»، يجادل فيه بأن إيفان إيلين، الذي رأى في بينيتو موسوليني وأدولف هتلر نموذجين يحتذان لإعادة اختراع القيصرية الروسية بعد أن أسقطها البلاشفة في 1917، يمثّل مصدر الإلهام الأساس لسياسات بوتين وتوجهاته السياسيّة، وأنّ الرئيس الروسي بوتين اعتمد على نظريّات هذا المفكّر دون غيره لشرح أسباب توجه روسيا إلى تقويض الاتحاد الأوروبي وغزو أوكرانيا. لكن سنايدر، وفق منتقديه، يبدو منعزلاً داخل برجه العاجي – كبروفسور في جامعة ييل – ويكتب دون اطلاع مباشر على الأوضاع في روسيا، لا سيما أن بوتين لم يذكر إيلين على الإطلاق عند التحدّث عن الاتحاد الأوروبي أو أوكرانيا، وإن كان استشهد به أربع أو خمس مرّات في خطابات متفرقة. وقد سأله أحد الصحافيين العام الماضي حول مصادر إلهاماته الفلسفيّة، فذكر إيلين مشيراً إلى أنّ لديه نسخة من (كتابه) ويعود إليه في بعض الأحيان، لكنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّه ملمّ بكل أفكار إيلين المتفرقة في أكثر من ثلاثين مجلداً، وعلى الأغلب – وفق بول روبنسون الخبير بالشؤون الروسيّة – أنّ بوتين كان يشير بقوله (كتابه) إلى نسخة لمجموعة من المقالات نشرها إيلين في أوقات متفرقة وجمعت تحت عنوان «مهامنا»، وهي نسخة شعبيّة واسعة الانتشار في روسيا، ولا تشير بأي شكل إلى أن الرئيس الروسي خبير بشكل خاص بطروحات إيلين التي يتداولها مفكرون روس كثيرون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وحتى لو افترضنا على سبيل الجدل المحض مع سنايدر أن بوتين متأثر بالفعل بإيلين، فإن ذلك لا يكفي لتصنيف الزعيم الروسي في خانة الفاشيّة؛ لأن وصم توجهات إيلين بلون واحد قراءة انتقائيّة غير مفيدة على الإطلاق وتسكت بشكل مخلّ عن طبيعة أعماله المتناقضة. فالمفكّر الروسي المعادي بشدّة للبلاشفة يمكن أن يقرأ أيضاً كليبرالي أو كليبرالي محافظ، ويصفه كثيرون بمؤيد صلب «للنموذج السياسي الليبرالي للمجتمع والدولة» أكثر منه فاشياً، وهو خسر وظيفته بالتدريس في برلين (منتصف الثلاثينات من القرن الماضي) بعدما رفض التوجيهات النازية بنشر وجهات نظر معادية لليهود، في حين كان يناصر ما يبدو كصيغة استبداد ديكتاتوري للمعارضة في مواجهة النظام الشيوعي داخل روسيا وتنفيذ مهمّة استعادة النظام القيصريّ، وهو مسار آيديولوجي انخرط فيه الليبراليون الروس الآخرون الذين فقدوا إيمانهم بالديمقراطية بعد الثورة الروسية 1917، ونكوص العديد من الدول الأوروبية التي انتقلوا إليها إلى الشمولية في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي. وبالفعل، فإن عديداً من الجنرالات الروس الذين قادوا الجيوش (البيضاء) في الحرب الأهليّة مع الجيش الأحمر تبنوا شعارات مثل «روسيا، واحدة وغير قابلة للتجزئة» ورفضوا بشدّة منح الحكم الذاتي أو الاستقلال للأقليّات القوميّة التي تعيش في إطار الفضاء الجغرافي الروسي بما في ذلك أوكرانيا، ودائما مع استمرار تموضعهم داخل الأفق الليبرالي في فلسفتهم السياسيّة وتحالفاتهم الدّوليّة.
إن الاكتفاء بإدانة الآخرين – بمن فيهم الرئيس الروسي – من خلال اتهامهم بال «الفاشيّة» هو تسطيح غربي مقصود في إطار الدّعاية السياسيّة لتصويرهم كأشرار، وأقرب إلى كاريكاتير هزلي لا أكثر. والأخطر في حالة بوتين، أنّ تلك التكهنات التي يأتي بها أنصاف مثقفين وغير مدعمة بتحليل تاريخي وأرشفة وثائقيّة، تدفع لحصر الخلاف في المساحة الأخلاقية وداخل التكوين السيكولوجي الثقافي لفرد واحد – مهما بلغ شأوه من القوّة -؛ الأمر الذي يتسبب في التعمية على الجوانب الجيوسياسية والاقتصادية للصراع بين روسيا والغرب، وتجهيل الجهد الأميركي المنظّم لحصار روسيا وتقليم اظافرها في إطار صراعات النّفوذ بين الأمم والإمبراطوريّات الكبرى. وهي صيغة قد تناسب ألعاب البروباغاندا والحشد الإعلاميّ، لكنّها لا تصلح بأي حال لإدارة واقعيّة لشؤون السياسة الدّوليّة، ولا تساعد في بناء فهم أعمق لدوافع فلاديمير بوتين الحقيقية لغزو أوكرانيا أو الأفكار التي شكّلت نظرته للعالم.
والشرق الأوسط