باستمرار ضغط السلطة العسكري، تحولت النزعة الفصائلية من المكانية، حيث اختلطت فيها مواقف وردود أفعال سياسية وأيديولوجية متنوعة، عفوية غالباً، إلى فصائلية، اكتسبت تدريجياً طابعاً عقائدياً، غلبت عليه، بمرور الوقت، نزعة مذهبية، واكب انتشارها ظهور تنظيمات أسسها سجناء سابقون أصوليو الخلفيات، وشخصيات إسلامية ذات تأثير مجتمعي، بدت رد فعل شعبي الغطاء على عنف النظام، وحلت المذهبية فيها محل البرنامج السياسي والثوري الذي افتقر الحراك إليه، فعوض الشعور الديني بطاقته التعبوية عنه، أو قدم بديلاً عنه. على الرغم من الانتماء الإسلامي، كانتماء سياسي وهوية نضالية توحيدية، ظلت الفصائلية قائمة، مع أن تنظيماتها توسعت بسرعة، وغدت منظمات قتالية فاعلة، ضمت أحياناً آلاف الرجال، وانتشرت خارج أماكن نشأتها الأولى، واستقطبت مقاومين على الصعيد الوطني، مع اتساع حركة الانشقاق عن الجيش الأسدي، والتحاق المنشقين بمناطقهم أو بالتنظيمات المقاتلة التي استوعبت كثيرين منهم، بعد أن فشل المنشقون في بناء تنظيم عسكري وطني جامع خاص بهؤلاء، وحدثت اغتيالات طاولت بعض رموز هؤلاء، وصراعات نشبت بينهم، واعتماد بلدان عربية معينة سياسات أضعفتهم، فلم يبق لكتلتهم الكبرى غير الانضمام إلى ما هو موجود من تنظيمات، تدفعم إلى ذلك رغبتهم في القتال ضد الأسدية وحماية شعبهم من عنفها، ونصرة ثورته.
… شهدت الفصائلية بعض التبدل مع اشتداد الحاجة إلى وحدات عسكرية كبيرة، تنضوي في تشكيلات قادرة على استخدام أسلحة حديثة تخوض بها معارك على مستوى منطقة أو محافظة. ومع أن الفصائل حافظت على أسمائها، وفي حالات كثيرة على استقلاليتها وتنظيماتها، فإنها مالت إلى التنسيق والتعاون، واحتوت الفصائل الصغيرة التي تعاظم عجزها بتصاعد المعارك ونضوب مواردها وتراجع دورها الميداني، وما طرحه التطور العسكري عليها من مهام تحدّت قدراتها. هكذا تضخمت بعض الفصائل وازداد المنتسبون إليها، واكتسبت طابعاً وطنياً متزايد الوضوح، بعد رحيل عدد كبير من “المهاجرين” عنه، والتحاقهم بداعش.
أحدث هذا التطور تقدماً في مواقف معظم التشكيلات وعلاقاتها مع بعضها، وقد وحد معظمها جهوده في إطار جيوش فتح ونصر، فلم يبق إلا أن تعلن قريباً انخراطها في جيش وطني، سيكون الرد العسكري الحقيقي الوحيد على العدوان الروسي وجرائم الأسد. بينما بقيت مناطق قليلة أسيرة ظاهرة الفصائلية، وخصوصاً منها مدينة حلب وضواحيها التي تعثر فيها ما حققه غيرها، فلا عجب أن كانت أوضاعها صعبة وسلبية الارتدادات على العمل الوطني والثورة، وعلى المعارك في المدينة ومن حولها.
واليوم، وحلب مهددة من جيش السلطة وقوات البياده وداعش، تمسي الحاجة إلى تخطي النزعة الفصائلية والواقع الانقسامي الذي أنجبته فأنجب كوارث، ويغدو من المحتم والملح البدء بتوحيد المقاومين بقوة المشتركات الوطنية الجامعة التي يتقاسمونها، والمخاطر التي يتعرّضون لها، فإن حافظوا على أسماء تشكيلاتهم وهيكلها التنظيمي، كان عليهم قبول قيادة يلتزمون بإطاعتها وينفذون خططها، كأنهم جسد واحد، بدل القتال فرادى، والعجز عن مواجهة المخاطر باستباق وقوعها، والغرق في السلبية، بينما الحرب مبادرة وتخطيط.
تخوض فصائل حلب هذه الأيام معركة وجود، لن تربحها بفرقتها وخلافاتها وسلبيتها بعضها حيال بعض. وستنتصر إن هي قاتلت على قلب رجل واحد، وفي ظل قيادة تطاع، وتذكّرت أن معركة حلب حاسمة الأهمية، بالنسبة لما نعيشه هذه الأيام في وطننا.